تحقيقات وتقارير

رفع العقوبات.. قبور الأسرار


هنا اقتبس قولاً لحالة ساستنا: «إن النظرة الجزئية لأحداث التاريخ تنتج مواقف إزاء تلك الأحداث لا تتفق مع الواقع تماماً، وتكون ظالمة لأشخاص ووقائع».

قارع وزير الخارجية إبراهيم غندور نجوم هوليود في جذب الانتباه إليه باعتباره أحد مهندسي إحالة المقاطعة الاقتصادية الأمريكية الى مزبلة القرارات، «رفع ورفع» هي العبارة الأكثر تكراراً للبروف خلال الآونة الأخيرة، وبعد عودته من زيارة طويلة الى واشنطن ونيويورك الشهر الماضي انزوى وزير الخارجية رافضاً الإجابة عن تساؤلات بشأن الإجابة والرد على توقعات بشأن قرار إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول رفع العقوبات في 12 أكتوبر آنذاك، وبعد رفعها أيضاً لم يضمن البروف غندور إجابات واضحة بشأن كثير من التساؤلات، هذه واحدة من أهم الملامح المدونة للتاريخ السوداني فموت او رحيل المسؤول وقبر أسرار عمل وطني من شأنه تزييف التاريخ وتغيير مجرى كثير من الشواهد ونقل فضل نجاحها لآخرين وإهمال ووأد حق آخرين.
وعقب رفع المقاطعة الاقتصادية الأمريكية وفق ما يرى المهتمين بالشؤون السياسية كمسمى صحيح ورفع العقوبات الاقتصادية حسبما يرى السياسيون لتسمية ذلك القرار في عهد بيل كلنتون، عقب ذلك اتجه الجميع للنظر شرقاً وغرباً للتقصي وراء أسباب اعتماد ترامب قرار رفع المقاطعة او العقوبات عن الحكومة، ودارت الأسئلة بخلد الجميع .. ماذا قدمت الحكومة؟ وماهي الصفقة؟ وماهية الأسباب التي جعلت ترامب يقوم برفع تلك الصخرة الثقيلة عن السودانيين؟. وذهب البعض فوراً الى تقديم تنازلات من قبل الحكومة، وآخرون رأوا أن العملية تمت بتقديم خدمات استخبارية من الخرطوم لواشنطن وهناك من ألصق واقع القرار الى ضغوط وتدخلات وعمل قامت به دول خليجية وأخرى صديقة، البعض ترادفاً مع الحديث والتحليلات بصم بـ»العشرة» بأن الضامن لرفع العقوبات هي المملكة العربية السعودية «أي هي من ضمنت الحكومة في بلاد العم سام»، لكن الأهم من ذلك أن البعض ثقب قرار رفع العقوبات بالتدخل الإسرائيلي في الأمر، وفي هذه المادة المستندة على متابعة ليست بالقصيرة لمسألة العقوبات او المقاطعة الاقتصادية الأمريكية تبين بعض الأمور شأن بعض النقاط وتظهر هذه وتلك فور دمجها وربطها مع بعضها وسط حالة غريبة لقادة الدولة من وزراء خارجية وتعاون دولي وغيرهم من الوزارات المرتبطة بالدبلوماسية والعمل الخارجي في سجن المعلومات العامة حول أسباب رفع العقوبات وما دار في المسارات الخمسة التي أوضح الجانب الأمريكي كل ما قام به حولها وما تم دخل الغرف المغلقة.

فلننصرف حتى لا نخرج من إطار الموضوع كلياً الى نقطة مهمة للغاية متعلقة ببدء التفاوض مع الولايات المتحدة، وما هو معلوم فإن الخرطوم او الحكومة في الخرطوم هي من طلبت التفاوض لرفع العقوبات، وإبان فترته مساعداً للرئيس مضي د.نافع علي نافع في قيادة الحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية وهي بداية الفترة الحقيقة للحوار مع أمريكا وتعد تلك الفترة هي ملء الكنائن قبل الرماء ووقع د.نافع تقدماً لافتاً في الملف ووضع اللبنات الأولى حتى سلمه الى مساعد الرئيس آنذاك إبراهيم غندور الذي مضى عليه أيضاً برفقة آخرين.

(1)
يعتبر الحوار الذي أجرته صحيفة «اليوم التالي» مع الفريق طه مدير مكتب الرئيس السابق من أهم الحوارات التي حددت بدقة مسار التفاوض مع الولايات المتحدة، وأظهر ذلك الحوار نقاطاً غاية في الأهمية للمتابعين للملف، كما أوضح بجلاء بأن العقوبات في طريقها للإزالة من القائمة الأمريكية، وهو ما قاله الفريق نصاً في الحوار (ما رؤيتك للعام الجديد، هل أنت متفائل به؟
* نعم.. أنا متفائل جداً؛ لأن بداياته جيدة بالنسبة للسودان نفسه، وأولى بشاراته رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية عن السودان، والسماح لبنوكه بالعمل مع كل بنوك العالم، السودان سينطلق بحول الله بالخطوة السريعة خلال العام الجديد، طالما أن علاقتنا مع كل الدول قوية، وعلى رأسها أهم دولة بالنسبة إلينا، وفيها قبلتنا، وأعني بها السعودية).

وأوضح الفريق في متن الحوار نفسه أن هنالك تواصل بدأ بالرئيس ترامب بعد إجراء الرئيس البشير لاتصال به هنأه بالفوز وتمنى له التوفيق، وأضاف «والإخوة السعوديون والإماراتيون لهم علاقة قوية بإدارة الرئيس ترامب، وبالحزب الجمهوري تحديداً، وهذا الأمر ليس جديداً، وأعتقد أن وقفتهم معنا، ودعمهم لنا سيسهلان تواصلنا مع الإدارة الأمريكية الجديدة أكثر في الفترة المقبلة».
ويبين الفريق طه أن بعض الاستفسارات أخذت جانباً من النقاش في أعمال اللجنة المشتركة وهي لجنة الحوار مع أمريكا لم يتطرقوا إليها باستفاضة، لكنهم وفي بعض المرات كانوا يتساءلون عن مسببات منع بعض المعارضين من السفر، ويسألون: لماذا اعتقلتم هذا أو ذاك، وكانوا يتحدثون عن ضرورة تأمين حق التظاهر السلمي، وعدم التضجر من الرأي الآخر، وعن وقف الاعتقالات السياسية، وما إلى ذلك.

(2)
اللقاء الذي جمع رئيس هيئة الأركان المشتركة الفريق أول مهندس عماد الدين مصطفى عدوي، بنائب القائد العام للقيادة الأمريكية الأفريقية “ألكسندر لاسكاري” بالخرطوم سابقاً، والذي بحث إمكانية استئناف التعاون العسكري بين الخرطوم وواشنطن بجانب الأوضاع الأمنية في دول الإقليم، وبجانب ذلك إعلان الفريق عدوي عن تلقيهم دعوة للمشاركة كمراقبين في تمرين (النجم الساطع) الذي يجري في مصر بمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية، كل ما سبق جزئية مهمة في عكس الثقة العالية التي بدأت الإدارة الأمريكية تقر بها للجانب العسكري السوداني.
وبحسب متابعين للملف فإن جهاز الـCIA يقر في كثير من الاجتماعات واللقاءات علىأن جهاز الاستخبارات العسكرية من أفضل الأجهزة الاستخبارية في إفريقيا ويعد أميز جهاز استخبارات في جمع المعلومات وتصنيفها وتحليلها وهي الجانب الأهم للإدارة الأمريكية في عموم الموقف للتعامل مع السودان، وتعتبر الشخصية التفاوضية المتدرجة التي يتمتع بها الفريق أول عدوي واحدة من أهم نقاط التحول في الاعتراف الأمريكي قدرة الاستخبارات.

الفريق أول عدوي منذ عملية الاقتراع والاستفتاء وبعدها فيما عرف بمفاوضات السودان وجنوب السودان حول القضايا العالقة ظل مفاوضاً مهماً في الجانب العسكري وحتى قبيل تعيينه رئيساً للأركان ظل مشاركاً في كل جلسات التفاوض بين الخرطوم وجوبا.
أيضاً جانب آخر مهم في التأثير المباشر للقوات المسلحة في مسألة رفع العقوبات هي إيجاز متطلبات وخطوات محددة ساهمت في الدفع بقوة هائلة لمسار التفاوض مع الإدارة الأمريكية وتقليد جهاز المخابرات الأمريكي ناصية الاطمئنان، والتقى الفريق أول عدوي بعدد من المسؤولين العسكريين الأمريكين في مختلف المناسبات، فضلاً عن سلسلة لقاءات بالقائم العسكري في السفارة الأمريكية، هذا الجهد يضمن داخل سور أحد أبرز الشخصيات التي عملت بصمت في ملف رفع العقوبات وظلت تجوب في اللقاءات مع المسؤولين العسكريين الأمريكيين بالتعاون وتأكيد قدرة السودان على ذلك.

مغاليق التعاون العسكري انفتحت بعد ذلك اللقاء وهو المطلوب للخرطوم لفتح ثغرة في الموقف الأمريكي المتعنت، قابلته خطوة من الإدارة الأمريكية عبر دعوة لاسكاري لمشاركة القوات المسلحة كمراقب في تمرين «النجم الساطع»، لتتجاوز علاقة التعاون العسكري عقبة الشكوك والرفض وتتجه الى مرفأ التجهيز للإبحار مستقبلاً

(3)
على طريقته في الانكفاء على نفسه يعتبر خازن الأسرار مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني السابق صلاح قوش أحد الشخصيات التي بذلت مجهودات كبيرة في رفع العقوبات وقاد قوش الكثير من النقاشات وحضر عدداً من اللقاءات مع مسؤولين أمريكيين للتقدم بالملف منذ تقلده منصب مدير جهاز الأمن.

وعلى المنوال نفسه مضى وزير الخارجية علي كرتي آنذاك، فالعلاقة التي تجمع الرجلين أدت الى انفراج لافت في التفاوض ووصول الأطراف الى بعض التفاهمات غير المعلنة بيد أن متغيرات كثيرة جرت تحت الجسر حالت دون الوصول لقرار أمريكي نهائي برفع العقوبات، وكل تلك الخطوات التي تمت بمتابعة مساعد الرئيس في ذلك الوقت د.نافع علي نافع وإشراف الرئيس البشير توقفت من قبل الجانب الأمريكي وفق المتغيرات التي كانت تحيط بالسودان وظروف داخلية فرضتها الأوضاع في ذلك الوقت.
كرتي قبل أكثر من خمس سنوات أحدث اختراقاً لافتاً في الملف بصفة عامة والعلاقات بصفة متوسطة، لكن افتقد الى الدعم الخليجي في ذلك الوقت. وحسبما نقل مسؤول حكومي سابقاً فإن الدفعة الخليجية المهمة كانت الدعامة الوحيدة المفقودة في سلسلة الملف لدى كرتي.

(4)
منذ أن قطعت الحكومة علاقاتها مع حكومة إيران اتجهت بذلك الى فتح ثغرة للنفاذ ملف رفع العقوبات والتحضير لحشد موقف دولة مهمة التأثير في القرار الأمريكي هي دولة الإمارات العربية المتحدة وبعد نجاح الخطوة السابقة في مسألة التعاون العسكري، تحول الموقف الإماراتي مائة درجة وانتقل من خانة المراقب الى المشاركة الفعلية في التدخل لدى الإدارة الأمريكية وتقوية موقف الخرطوم من قبل محمد بن زايد ومنصور بن زايد وعبد الله بن زايد.

لاحقاً تكررت زيارات للرئيس البشير الى أبوظبي، وشهدت أجزاءً كبيرة من الوقت او غالبية أوقات الزيارة نقاش حول رفع العقوبات مع المسؤولين الإماراتيين، كما أن الزيارات المتكررة لمدير مكاتب الرئيس السابق في ذلك الوقت الى أبوظبي لمتابعة الملف أظهرتها وأثبتتها تقارير غربية تحدثت عن مساع إماراتية لدى الإدارة الأمريكية لرفع العقوبات.

(5)
في تلك الاوقات نظم ونسق وزير الخارجية السعودي عادل الجبير لقاءات سرية لمدير مكاتب الرئيس السابق الفريق طه عثمان مع مساعدة وزير الخارجية الأمريكية وقيادات بجهاز الـCIA ، وجمعت تلك اللقاءات أوراق الملف على مائدة تفاوضية غير رسمية لا ينبغي رفع غطائها. الفريق طه قال في حوار صحافي إن الجهود السعودية بدأت باستدعائه عاجلاً الى الرياض، بطلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قبل عامين، الذي أبلغه عما نتج من لقاءاته بالمسؤولين الأمريكيين وخاصة وزير الخارجية جون كيري، مشيراً الى أن الجانب الأمريكي أشار الى 3 نقاط طالب أن تلتزم بها الخرطوم، لرفع الحظر الاقتصادي عن السودان، وهي «وقف الدعم لجيش الرب وزعيمه جوزيف كوني، ووقف دعم الحركات المتمردة ضد حكومة جنوب السودان، وعلى رأسها نائب الرئيس الأسبق رياك مشار، والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية لمناطق الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق».
وأشار الفريق طه الى أن الحكومة قبلت النقاط الثلاث بسهولة، لأنها لا تدعم أصلاً جيش الرب، وأنها طلبت (أن يلتزم جنوب السودان في المقابل بوقف دعم معارضينا أيضاً)، وقال إن الرئيس البشير وافق عليها.

ونبه الفريق طه الى أن الجهود السعودية لرفع العقوبات عن السودان بدأت في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، وأن ولي العهد هو الذي تولى الملف، وقال: « التقط القفاز ولي العهد الشاب محمد بن سلمان الذي يعشق السودان حقيقة». وكشف الفريق طه أن الجهود السعودية انطلقت في المغرب، قبيل اجتماع قمة نواكشوط ، حينما اجتمع خادم الحرمين الشريفين مع الرئيس عمر البشير حيث تم بحث العقوبات الأمريكية على السودان.

ولاحقاً بعد قمة نواكشوط نفسها في يونيو 2016 انتقل الرئيس البشير الى المغرب في زيارة شملت لقاءً مهماً مع الملك سلمان في مدينة «طنجة»، ورغم التعتيم الذي صحاب اللقاء إلا أن المتابعات اظهرت ان ملف العقوبات كان علي راس اسباب الزيارة ولقاء الملك سلمان الذي كان يقضي إجازته السنوية هناك، ووفق الاجتماعات المتواصلة التي تجريها لجان التفاوض في ذلك الوقت شكلت تلك الزيارة واللقاء تحولاً كبيراً في الموقف الأمريكي.

(6)
حسناً .. كما هو قوش هو عطا، مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني محمد عطا فضل المولى «غير الممكن الوصول إليه حالياً» للإفادة بشأن الملف، لكن ربما لاحقاً يمكن ملاحقة شهادته. الفريق أول عطا أحد مهندسي الملف والركيزة الأساسية في قرار رفع العقوبات زار واشنطن في مارس 2017 استمرت أياماً بدعوة رسمية من مدير وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) مايكل بومبيو، حيث أجرى في ذلك الوقت محادثات وصفت بالمثمرة مع المسؤولين عن الوكالة ومسؤولي مكتب التحقيقات الفيديرالية (أف بي آي) ووكالة الأمن الوطني (أن أس إي)، ورؤساء لجان ونواب في الكونغرس.
وذكرت مصادر مأذونة في الخرطوم آنذاك أن عطا التقى فور وصوله إلى واشنطن مدير الـ «CIA» ونائبته جينا هاسبل، ومساعديه الرئيسيين. كما التقى والوفد المرافق له في مقر الكونغرس رؤساء لجان برلمانية ونواب وعقد لقاءات أخرى مع قيادة مكتب التحقيقات الفيديرالية ووكالة الأمن الوطني.

وأضافت المصادر ذاتها أن محادثات عطا ناقشت ملفات عدة من بينها التهديدات الأمنية والأوضاع السياسية والأمنية والإنسانية في المنطقة والتعاون الأمني بين السودان وأمريكا.
هذه الزيارة نقلت الملف بالفعل الى مرحلة الرفع، ورسمت العنوان العريض لتوقعات برفعه لما حوتها من وضع النقاط الأخيرة على الحروف المكتملة للتعاون النهائي بين البلدين عسكرياً وأمنياً. فظاهرة الإرهاب التي تقلق الأمريكان باتت بعد تلك الزيارة في موقع مميز لديهم بحسب ما يعتقد محللون، وجاءت الزيارة في وقت كانت فيه الملفات تلقى الدعم والسند العالي من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات.
اللافت أن زيارة عطا أتت إلى واشنطن بعد 3 أسابيع على زيارة رئيس البرلمان إبراهيم أحمد عمر إلى واشنطن، حيث التقى أعضاءً في الكونغرس ومسؤولين أمريكيين.

(7)
في مايو 2017 نجح جهاز الأمن والمخابرات وأجهزة الاستخبارات العسكرية في تخليص رهينة فرنسي اختطف في دولة تشاد ونقل من قبل مجموعة مسلحة الى السودان. العملية عالية الدقة التي تمت لتخليص الرهينة الفرنسي بالتنسيق مع جهازي المخابرات في فرنسا وتشاد وضع بصمة كبيرة في مسار التعاون الأمني، وبصم مؤكداً على مقدرة الأجهزة الأمنية السودانية في التعامل مع أحلك القضايا الخاصة بالإرهاب. جهاز الـCIA راقب بصفة كثيفة العملية حتى كللت بالنجاح، نوعية العلمية هنا فرضت على السي اي ايه واقعاً آخر وأخيراً في ملف التعاون مع الأجهزة الأمنية السودانية.

هيثم عثمان
الانتباهة