مقالات متنوعة

مستصغر الشرر


تحدث أشياء صغيرة.. متفرقة.. هنا وهناك.. لا نلقي لها بالاً.. لكنها بعد قليل.. تصير مشكلة عويصة.. صعبة التجاوز.. فتجدنا نتوقف متسائلين (ما الذي حدث ليصل الأمر الى هذه الدرجة؟؟).. فتأتينا الأجابة عاجلة.. لقد كانت الاشارات واضحة وضوح الشمس.

أين ذهب ذلك التسامح الديني الذي كان يميز المجتمع السوداني؟؟ ولماذا صار المواطن السوداني يصنف حسب ديانته ومعتقده؟؟ والسؤال الأهم.. منذ متى أضحى المواطن السوداني المسيحي.. مواطناً من الدرجة الثانية؟؟..و لا يحق له ممارسة شعائره الدينية بكامل الحرية؟؟
نشأنا معا طوال عمرنا.. في أحياء عطبرة على سبيل المثال لم يكن هناك شارع لا يسكن به أقباط أو أفراد يعتنقون الدين المسيحي.. تعايشنا معاً.. تقاسمنا اللقمة والملح والملاح.. شاركنا أفراحهم و(عصروا معانا كم وكم فراش).. وتقريباً أغلب الفصول الدراسية التي مررت بها.. كانت معنا على الأقل تلميذة أو اثنين من الديانة المسيحية.. كانت الحياة عادية.. نعيش بسلام وأمان.. للا فرق بيننا وبينهم.. كنت أعتقد أن هذا الأمر خاص بعطبرة.. اذا بي اكتشف أن كل مدن السودان بلا استثناء بها جاليات قبطية ومسيحية.. تتعايش بكل هدوء وسلاسة.. المساجد تعلو بالآذان يوم الجمعة.. والكنائس تدق الأجراس بالأحد.. فالدين لله والوطن للجميع.

ماذا طرأ في الساحة؟؟ ومتى كان ارتياد الكنائس جريمة يعاقب عليها.. ويتم تبعاً لها اقتياد القساوسة ومحاكمتهم؟؟ ولماذا لا يتم استصدار تصاديق لإقامة كنائس لمواطنين سوداني الجنسية بالميلاد لهم الحق في الأرض وتراب الوطن؟؟ على أي أساس في القانون يستند هؤلاء؟؟ هل من مجيب؟؟ إن كانوا يعتقدون انهم يستندون على الديانة الإسلامية.. غايتو الكلام دا ما درسونا ليهو.. الذي نعرفه عن الدين الاسلامي أنه يكن احتراماً خاصاً لأهل الكتاب.. وللنصارى بالأخص.. فأن منهم (قسيسين ورهبانا).. والقصة المشهورة عن الأمان الذي منحه عمر ابن الخطاب لقساوسة القدس.. (من عبد الله عمر بن الخطاب، أهل إيلياء من الأمان) أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وملتهم.. لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من صليبها ولا شيء من أموالها ولا يضار أحد منهم بشيء.. والقصة موجودة في كل كتب التاريخ الإسلامي لمن أراد التثبت.

لكن الأمر المحير والمقلق هو الصمت الذي درج عليه المجتمع أخيراً إزاء مثل هذه الأمور.. أو كما قلت الإشارات الصغيرة التي نغفل عنها.. مثل تلك الحادثة التي ذكرت في بعض الصحف عن تعدي بعض الشباب لرجل في المسجد.. ذلك انهم يرون انه لا يستحق الدخول للمسجد لأنه يعمل (فناناً).. مر الأمر ولم يتساءل أحد من الذي جعل بيدهم مفاتيح الجنان ووكلهم بتوزيع صكوك الغفران؟؟.. هذا ما يدعي بستصغر الشرر.. التشدد والتطرف الذي ينظر بعين واحدة ويمنع غيره من العيش على الأرض بحجة انه حامي للدين والعقيدة.. هل هناك رابط بين هذه الحادثة وتلك.. نعم هناك الكثير.. تلك الحادثة كانت البداية.. وها هي المناظر تتوالى.. منع مواطنين سودانيين كاملي الأهلية من ممارسة شعائر ديانة معترف بها في الدستور.. إنها الفتنة ورب الكعبة.. انه التفتق لنسيج اجتماعي وروحي ربطنا عبر آلاف السنين مع إخوة وجيران لنا.. لم نرى منهم إلا كل خير.. ولم نسمع منها إلا كل جميل.. وفوق كل هذا وذاك مواطنين سودانيين لهم ما لنا وعليهم ما علينا.. أدركوا السودان.. أو ما تبقى منه.. إني لكم من الناصحين.

صباحكم خير – د ناهد قرناص
صحيفة الجريدة