الصادق الرزيقي

مِنْ أَدَبِ المَقَامَات: المَــقــــَامَةُ الإيــلاويـــَةُ


نص علوي:
قَالَ ابْنُ أبَي البَاقَيرِ مَعتُوقُ بن بَرَكَاتٍ بنِ أَبَي حَرَازِ الرُّفَاعِيِّ المَدَنِي:
(لَمَا نَافَحَ عن ابْنِ طَاهِرِ فَخَامَةُ الرَّئيسِ، وَجَرَه مُعَافَى وسَالِمًاً مِنْ حَامِي الوَطَيسِ، طَحًا به مَرَحُ الكَيَاسَة، وأنَاخ إبْلَه فِي بَيْدرِ السِّياسَةِ، قَالَ للنِّاسِ مَا بَالَي بَعْدَ أن أُزِيْحَ مِنْ أَمَامِي كُلُّ شَوكٍ ومِتْراسٍ،

وَحُذْتُ مِنْ جُمُانِ المَدْحِ جَواهِرَ ومَاسَاً، حَمَدتُ الله في نَفْسِي كَثِيرَاً، صِرْتُ مِنْ قَبْلُ والياً وَوَزيْراً، وَشَرِبتُ مِنْ نَبِيْذِ الحُكْمِ والسُّلطَانِ جَرَة وزيراً، وَذُقْتُ مِنْ لَذائذِه فَالُوذَجَاً وَفَطِيراً، لَمْ يَبْقَ لِي إلاَّ مَا تَمَنَّاه لِيَ البَشِيرُ أنْ أكَونَ رَئِيسَاً، حَاكِمَاً بِأَمْرِي قَائِماً وَجَليسَاً، لا تَحْسَبُوهَا مِشْيَتِي مُخْتَالاً بِهَا زاهيَاً كالطواويس، أَو فَرِحَاً أَخْرِقُ الأَرْضَ طُولاً كالمَعَنى المُشِعِ في وَجْهِ القَرَاطِيسِ، فَأنَا لَمْ أَسْعَ لِلسُّلطَةِ أَطُلُبُ نَوالَهَا، جَاءَتْنِي وَحْدَهَا تُجَرْجِرُ أَذَيَالهَا، فَلَمْ تَكُنْ تُصْلِحُ إلا لِي وَلَم أَكُ أُصْلِحُ إلاَّ لَهَا.
ثُمَّ أنَّ ابْنَ طَاهرٍ لَمَا خَاضَ الغِمَارَ، وَأَدْركَ الأَوْطَارَ، وَجَنَى فِي عِراكِه الثِّمَارَ، وَدَانَ لَهُ البَّرُّ والبَحْرُ فِي الجَزِيْرَةِ، وَفَرَغَ مِنْ حُرُوْبِه الأَخَيْرة، فَبَعْدَ حَدِيثِ الرَّئيسِ سَارَتْ بِذِكْرِه الرُّكْبَانُ، وتَراءَتْ لَه فِي زُرْقَةِ السَّمِاءِ بُرُوقِ الجَّاهِ والسُّلطَانِ، السَّيفُ فِي يَمينَهِ وفَي يُسرَاه صُولَجان، صَلَى لله رَكَعَتَينِ شَاكِراً وحَامِداً، أنه بَنَى وَعَمَّرَ طُرُقُاً وَمَسَاجِدَ، مشافياً وَمَرَاكِزَ وَمَعَاهِدَ، وَكَسَا أَزِقَةَ المَدِينَةَ مُزَرْكَشَ الثِّيابِ، وَوَشَّى رِدَاءَهَا القَدَيمِ بأَنْتَرْلُوكِه مُغَطِيَاً سَوْءَةَ الغُبَارِ والتُّرَابِ، فَهُوَ لَمْ يَعِشْ مُسْتَرْخِيَاً فِي كُرُسِيِهِ مُنَعَمَاً مُسْتَمْتِعَاً، أو جَالِسَاً مُقَهْقِهَاً جَاعِلاً الحُكْمَ مَرْتَعَاً، بَلْ عَاشَ فِي رِبُوعِه مُنَظِرَاً مُخَطِطَاً وَمُبْدِعَاً، تَسَاقَطَ الأَعُدَاءُ حَوْلَهُ كَلْمَى هَزِيمَةَ، فَالوُقُوفُ فِي جَفْنِ الرَّدَى لَدَيهِ عَادَةٌ قديمةٌ، فَسَقْفُهُ السَّماءُ، وَحَرْبُهُ الفَضَاءُ، إذَا تَقَهْقَرَ نَجَدَتُه الرِئَاسَةُ، فَيَدُقُ مِنْ جَدِيدِ للحَرْبِ طَبْلُهَا ونَحَاسِهَا، فَالوِلاَيَةُ عِنْدَهُ مَقْعَدٌ أَلَيفٌ، يَسُحُّ مَا فِي كَوبِهَا الشَّفيفِ، فَإنْ جَاءَتْهُ فُرصَةُ التَّرقي والصُعُودِ، فإنَه شَبِيهُهُا وَصِنوُهَا الوَدُودُ، أَلَمْ تَرَ فِي سِيمَا عَهْدِهِ عَلامَةَ الصُّمُودِ، مُبقِيَاً فِي تَارِيخِهِ إشَارَة الخُلُودِ).
لَمَا أَتَمَّ ابْنُ أَبَي البَاقِيرِ مَعْتُوقُ الرِّفَاعِي المَدَنِي مَقَالَه، وأَسْمَعَ كَلَّ مُنْصِتٍ ونَالَه مَا نَاله، جَاءَتْ امْرَأةٌ عَجُوزٌ تَوَكَأتْ عَلَى عُكَازَةٍ مُشَعَّبَة، عَلى وَجِهِهَا خِمَارَها وَثَوْبِهَا كَأنَها مُنَقَّبَة، قَالَتْ لاَ تَحْسَبوا قَولِي مُتلفاً وَهَضْرَبة، هَلْ فِي جَزِيرتَنِا مِنْ يُحْسِنَ النِزَالَ، مِثلُ ابْنِ طَاهرٍ, مِنْ يُعْجِمُ العُودَ والنِبَالَ، قَالَ لَهَا مِنْ جَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ يَسْعَى، لَمْ يَجْلِسُ مُقَرْفَصِاً كَالكَلبِ يَقُعِي، صَهْ يَا أُماهُ مِنْ حَدِيثِكِ القِرَاحِ، تَمْزُجِينَ الحَقِيقَةَ كَمَزْجِ المَاءِ بالرَّاحِ، نَحْنُ هُنَا فِي جَزِيرَتِنَا جِيَادٌ مُطَهْمَة، عِتَاقٌ نِياقُنَا خُيُوُلُنَا مُصَرَّمَةٌ، لاَ نَعْرفُ الكِلالَ والمِلالَ، ونَعْرِفُ الضِرَامَ والنَّدَى وأَبْعَدَ المنال، قُلُوبُنَا مَفْتُوحَةٌ مَجْرُوحَةٌ مَقْرُوحَةٌ، ونُفُوسُنَا مَربُوحَةٌ نَزَوحَةٌ مَشْرُوحَةٌ، فَكُلُّ مِنْ يَمُرُ بَيْنَنَا مُكَرَمٌ مُبَجلٌ، وَكُلُ وَالٍ جَاءَنَا اهْتَزَ سَرْجُهُ تَرَجَّل، أَفْلَتَ لِجَامُهُ ثُمَّ غَابَ، لمَّ ثَوبَهَ عَلَيهِ ثُمَّ آبَ، لَكِنَّ ابْنَ طَاهِرٍ هَذَا تَمَهَّلَ، اِسْتَّلَ سَيْفَهَ مِنْ غِمْدِهِ، أّشّاحَ دِرْعَهَ وبَانَ زِنْدَهُ، عَلا زَفِيرُهُ حِينَ غَضِبَ، تَأَبَّطَ شّرَّه يَومَ رهِبَ، فَلَما رَأينَا أَنَّ الحُرُوبُ هنا مُدَمِرةٌ خَاسِرَةٌ، والغَبَينَةُ عَامِرةٌ وَافِرَةٌ، لَمْ نُخَرِّبْ حَيَاتَنَا بِالسِّجَالِ، فَالصَّبرُ مَنْجَاةٌ لنا من الخِبَالِ والزَّوَالِ، سَيَذْهَبُ ذَاتَ يومِ كُلُّ والٍ، وَتَبْقَى بِلادُنَا مَخْفُورَةً مأمونةً، عزيزةً مصونةً.
لَمَا بَلَغَ ابْنُ طَاهِرٍ مَقَالةَ المُسِنَّةِ العجوزِ، وَرَدَ الفَتَى مَا يُؤْخَذُ مِنُه ومَا لا يَجُوزُ، تَبَسَّمَ تَبَسُّمِ المُنْتَصرِ الظَّفُورِ، فَأَمَرَ بإحْضَارِ الثَّرِيدِ والقُدُور، أُتْرِعَ المَكَانُ بكِلِ خُبْزٍ سَمِيذِ، وَلَحْمِ حنيذٍ، وَشَهْدٍ لذيذٍ، كَرَعَ كَرْعَةَ مِنْ مَاءٍ نَقِيٍّ، وأَمَامَه مَطْعَمٌ شَهِيٌّ، وأُفْقٌ فِي سَماءِ بلدةٍ بَهيٍّ، قَالَ، لَمْ تَغْتَمِضْ عينيَّ لَكِنِي رَأَيْتُ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ، رَأَيْتُ نَفْسِيْ بِرِدَاءٍ أَبْيَضَ فِي يومٍ غَائِمٍ، حَوَلِي الدُسْتُور، وَدُونِي القُصُورُ، حَوَلي تَلُفُنِي البَطَانَةُ كالسُّوارِ بالمِعْصَمِ، كالنَّعَالِ والمَيْسَمِ، فَهَل يَا تُرَى صِرْتُ للنَّاسِ رَئيسَاً، وأَنْشَبَتْ مَخَالبٌ مِنِي عَلَى لَحْمِ الفَرِيسَةِ، فَلَنْ يَسْلَمَ مِنِي عَدُوٌ أَو خَصِيْمٌ، خَسِيْسٌ أَو لَئِيمٌ، مُتَدَثرٌ بِالوُدِ أَو لدٌ حميمٌ، ثُمَّ تَبَسَّمَ مَرةً أُخْرَى وتَذَكَرَ، سِيَاسِيَاً مِنْ أَقْصَى الغَرْبِ فَي زَمانٍ أَغَبَرَ، قَالَ لِلنَّاس في يومٍ بهيجٍ، في اصْطِخَابٍ وضجيجٍ، نَاثِراً حُلُمَاً جَمِيْلاً، لأُنَاسٍ مَا لَهَمُ فِي صُرُوفِ الدَّهرِ حِيْلَةٌ، سَأَبْنِي لَكُمُ مَدْرَسَةً فِي هَذَا الوَادِي.. وَصَاحَ كُلُ مُنَادٍ: (ألْمِي بِشِيْلِي.. ألْمِي بِشِيْلِي)!!
نَصٌ سُفْلِيٌ:
هُنَا صَاحَ ابْنُ طاهرٍ مُرَدِدَاً ذَاك الصَّدَى، رَافِعَاً صَوْتَه تَجَاوَزَ مثل السابقين المَدَى، سَأبْنِي فِي كُلِّ شِبْرٍ مِنْ بَلاَدِي طَرَيْقَاً، سَيَكُونُ الشَّهْدُ كَمَا الدَّمِ هريقاً، والمَاءُ دليقٌ، وَعُيُونُ النَّاسٍ فِي كُلِ طَرِيْقِ، وقال له .. يَا هَذَا.. أَيْنَ فِي عَيْنَيْكَ ذَيَاكَ البَرِيقُ؟!

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة