الطيب مصطفى

جذور الصراع بين الحلو وعرمان


كتبنا بالأمس عن جذور الخلاف الذي أطاح مالك عقار وعرمان من قيادة الحركة الشعبية (قطاع الشمال) والذي تسبّب في تنصيب الحلو على رأس الحركة محل عقار وعمار أمون محل عرمان.

حدث ذلك الانقلاب بالرغم من أن الحلو لا يختلف عن عرمان كونهما شيوعيين ينتميان إلى مشروع السودان الجديد الذي أنشأه قرنق ليحكم به السودان، وما انقلب الحلو على عقار وعرمان إلا بضغط هائل من أبناء النوبة في الحركة والذين تنامى شعورهم بالظلم نظراً لأنهم ظلوا وقودًا لمعارك الحركة الشعبية في جنوب السودان، ثم لأحلام عرمان لإقامة مشروع السودان الجديد بعد انفصال الجنوب سيما وأن النوبة خرجوا من تلك الحرب صفر اليدين بعد أن صعد قرنق والجنوب على جماجمهم بالمجان ليحقّق مشروعه النيفاشي المكوّن من خيار الوحدة على أسس جديدة والتي تعني إعادة هيكلة الدولة السودانية بما يمكّن الجنوب (المُستعمَر.. بفتح الميم الثانية) من حكم الشمال على غرار ما حدث في جنوب أفريقيا وروديسيا البيضاء (زيمبابوي) وزنجبار (تنزانيا) أو خيار الانفصال في حال فشل مشروع الوحدة بالتصوّر الذي أراده قرنق.

صحيح أن عرمان والحلو وكل شماليي الحركة الشعبية لم يعملوا إلا من أجل وحدة السودان وفق مشروع السودان الجديد، وليس مثل قرنق والجنوبيين الذين قام مشروعهم على خياري الوحدة والانفصال كخيار ثانٍ باعتبار أن لهم وطناً بديلاً عن الشمال في حالة الانفصال على العكس من الشماليين، الأمر الذي فاقَم من حُزن أولاد قرنق من الشيوعيين الشماليين عندما حدث الانفصال.

لاسترضاء الشماليين سمّى أولاد قرنق في الحركة الشعبية دولتهم الجديدة (دولة جنوب السودان) على أمل العودة للوحدة على أسس جديدة (مشروع السودان الجديد) تحت حكم الحركة، ولذلك جاء تصريح كبير أولاد قرنق، الشيوعي خريج كوبا وعدو السودان الأكبر (باقان أموم) لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية بأن مشروع السودان الجديد لم يمُت بالانفصال وأنه قائم سواء عن طريق الوحدة (الخطة أ) أو الانفصال (الخطة ب) ولذلك، وجراء غفلة الشمال، احتفظوا بجيشهم الشعبي (الفرقتان التاسعة والعاشرة) في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق حتى تكونا ترياقاً وعوناً لتنفيذ الخطة “ب” وكانوا يضغطون بقوة على الشمال أيام كان باقان مفاوِضاً عن دولته الجديدة حيث أشعلوا الحرب في هجليج وأبو كرشولا وغيرها وكانوا يتعنّتون ويقاتلون في أبيي وكانوا سعداء باتفاق نافع عقار (نيفاشا تو) الممهِّد لعودة مشروع السودان الجديد بقوة، ثم كانوا سعداء أيضاً باتفاقية الحريات الأربع التي مكّنتهم من التسلل واختراق السودان بالخلايا النائمة في انتظار اللحظة المناسبة، وكأن السودان منطقة ضغط منخفض في مواجهة الجنوب، ولم يتغيّر ذلك الوضع الكارثي إلا عندما انفجرت الحرب بين سلفاكير ومشار وأحدثت تغييراً هائلاً في مراكز القوى حيث انهار الجنوب أو كاد وتشتت شمل أولاد قرنق بالرغم من أن سلفاكير ظل يتحرك بأحقاده الدفينة والقديمة ضد السودان لزرع الألغام والتآمر بشتى الوسائل بما في ذلك دعم متمردي دارفور وأتباع الجنوب في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق.

اضطررتُ إلى هذه الخلفية حتى نلم بأوضاع الجنوب وعلاقته بمنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق وتأثير ذلك على أوضاع قطاع الشمال خاصة بعد انقلاب الحلو والإطاحة بعرمان وعقار.

كان أبناء النوبة هم الخاسر الأكبر من كل تلك الأحداث حيث استُغِلوا ووظِّفوا من قِبل الجنوب الذي خاضوا معاركه بالرغم من أنهم لا ناقة لهم فيها ولا جمل !

سار عرمان بذات المخطّط الاستغلالي بالرغم من أنه لا يملك كاريزما قرنق التي أذعن لها أبناء النوبة في الحركة الشعبية، كما أنه كان بالنسبة إليهم مجرد (جلابي) بغيض لا يختلف عن بقية الجلابة الذين يُنظر إليهم باعتبارهم مجرد مُستعمِرين كما ورد في بيان استقالة الحلو الناضحة بالعنصرية، فكيف يرضون أن تستمر مسيرة الظلم التي خضعوا لها طويلاً ويُستغَلّوا من قبل رجل يبغضونه بأكثر مما يبغضون الشيطان الرجيم؟!

كان ذلك الشعور بالظلم حاضراً في ثورة الحلو التي أطاحت عرمان وعقار، سيما وأن عرمان باعترافه الذي أوردناه في مقال الأمس ظل مهموماً بمشروعه القومي مقدّماً إياه على هموم ومطلوبات جبال النوبة التي ظل يتجاهلها مثلما فعل سيده قرنق، وكانت تلك أكبر أخطاء عرمان التي عبّرت عن سذاجة ودروشة سياسية غريبة فبالرغم من أنه كان يعلم وميض النار الذي ظلّ يتصاعد تحت رماد قضية جبال النوبة، إلا أنه ظل يتجاهله مغرقاً نفسه في أحلام وردية تجاهل بها أن الأرض كانت تميد تحت قدميه!

فوق ذلك، فإن قرنق حاول أن يسترضي أبناء جبال النوبة من خلال تمييز المنطقتين على بقية مناطق الشمال عبر ما حصلت عليه الحركة في قسمة السلطة من نصيب كبير لم يتمكن عرمان من تقديمه للمنطقتين .

بالرغم من تعليق المفاوضات التي جرت بين وفد الحكومة السودانية وقطاع الشمال فإننا سنستمر في سبر أغوار استراتيجية التفاوض لقطاع الشمال في عهده الجديد بعد الانقلاب الذي أطاح عرمان وعقار ذلك أني كنت أتوقع أن تكون الجولة الحالية مجرد محاولة كل طرف معرفة منهجية تفكير الطرف الآخر .

الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة