حوارات ولقاءات

الصحفية المخضرمة آمال عباس: لست من صحافيي “الإنقاذ”.. أنا محتفظة باستقلاليتي حتى الآن


** يعتبر مؤرخون للصحافة السودانية أن تسنم السياسية السابقة والصحافية الكبيرة آمال عباس لمنصب رئيس التحرير في تسعينيات القرن الماضي بجريدة (الرأي الآخر)، نقطة تحول عملية بوصول امرأة لمنصب رئيس تحرير صحيفة يومية مستقلة في السودان.
الصعود إلى منصب رئيس التحرير بدا وكأنه تتويج لمسيرة 58 عاماً من امتهان المتاعب والجلوس على قمة بساط صاحبة الجلالة.. يتردد (الصدى) ويصفها الأديب المصري الحاصل على جائزة نوبل للآداب الراحل نجيب محفوظ بـ(السودانية الواعية) وتكشف آمال عباس في حوارها مع (اليوم التالي) مراحل تطور حالة الوعي لديها من خلال تناول تجاربها في الحياة والتي مازجت فيها بين السياسي والصحفي فقد كانت من أوائل المنضمين تحت لواء الحزب الشيوعي السوداني في فترة باكرة من حياتها قبل أن تترك الحزب من أجل الانضمام لتنظيم الاتحاد الاشتراكي أثناء حقبة حكومة مايو بزعامة الرئيس الراحل جعفر نميري.
سيدة (مايو) انخرطت عبر قلمها في مقاومة (يونيو) حيث أنها تصف تجربة الإنقاذ بأنها الأسوأ في ما يتعلق بالنظر إلى دور الصحافة وما يمكنها القيام به.. هنا تروي آمال العجب ما جرى في فترة مايو وتأميم الصحف وغيرها من القضايا.. تجيب عليها من داخل مكتبها في صحيفة (الصحافة) بالخرطوم.

* كيف كانت تجربة آمال في رئاسة تحرير الرأي الآخر؟
– لن أحكم على هذه التجربة بالنجاح المطلق لأنها جاءت في وقت سياسي صعب وظروف قابضة فهذه التجربة شهدت المفاصلة ما بين جناحي صراع الإسلاميين، لكن حقيقةً راضية عنها كل الرضا.

*كيف تنظرين للتضييق على الحريات الصحفية؟
– أولاً: الشيء الأساسي في الصحافة هو الحرية وهي مدخل للحكم على النظام، فالصحافة في السودان هي صحافة عمرها زاد عن المائة عام لكن هامش الحريات فيها ليس واسعا، وذات الهامش في بعض الأحيان يضيق وفي أحيان أخرى يتسع.

* ما هو تصنيفك للصحافة السودانية أهي صحافة مستقلة أم منتمية؟
– تاريخ الصحافة السودانية تاريخ مشرق، لأن الفترة التي مثلت فيها المهنية والاستقلالية أطول من الفترة التي تعرضت فيها للمتاعب والضغوط، وحرية الصحافة تختصر في جملة واحدة (حرية الرأي وقدسية الخبر) فحرية الرأي لها حدود بمعنى أن الشخص يجب أن يمارس حرية التفكير ليحمي نفسه، هذا إذا تحدثنا عن قدسية الخبر. فنظامنا ليس نظاما ديمقراطيا ليبراليا إنما نظام لديه حدود، فالإنقاذ لديها قيودها وفهمها لحرية الصحافة، فالشخص الذي يمتهن مهنة الصحافة في هذا المناخ هو مسؤول ويتماشى مع رؤية النظام إلى حد بعيد، فالصحافة الآن ظرفها مختلف.. الآن لا تسطيعين أن تقولي إن هنالك حرية واسعة لأن الرقابة مستمرة.

* هل كان توجهك لامتهان الصحافة من ورائه حزب أو تنظيم سياسي؟
لا.. لأنني قبل أن أعرف الانتماء إلى أي حزب مارست الصحافة في المرحلة الوسطى من خلال مجلة صوت المرأة.

* كيف تؤثر الأيدولوجيا على الصحفي؟
– الصحافة ليست فيها مساحة لأن تكون منتميا انتماء ضيقا وأنت تمارس مهنة الصحافة، لأن الصحفي المهني رأس ماله الصدق والحيادية العادلة والمعقولة، بمعنى أنت كصحفي إذا طلب رأيك في قضية معينة يجب أن تمارس انتماءك الفكري والأيدولوجي بعيداً عن مسار الصحيفة، فقدسية الخبر تمنع الشخص من أن (يتأدلج).

* اذا كان هنالك خبر يتعارض مع موقف الحزب كيف سيكون موقف آمال من ذلك؟
– إذا كنت أعمل بصحيفة الحزب وتضارب خبر مع فكره السياسي سوف أتغاضى عنه كأنه لم يكن، لكن حال إذا كنت شخصا عقديا وأعمل بصحيفة مستقلة فلست مطالبا بأن أنحاز.. عليك أن تضع الخبر كما هو حتى إذا تضارب الخبر مع رؤية الحزب الذي تنتمي إليه.

* هناك اتهام للصحفيين الشيوعيين في فترة مايو الأولى بأنهم كانوا جزءاً من مصادرة الحريات الصحفية؟
– هذا الحيث ليس صحيحا: لأسباب كثيرة.. ففي فترة مايو الأولى الصحفيون الشيوعيون لم يكونوا فيها كثيرين، فمايو بفكرها لم تصادر الصحف ولم تؤممها لأن لديها فكرا معينا، إنما أممتها لأن لديها برنامجا محددا.

* ألا ترين تناقضاً الآن في موقف اليسار من الحريات وهم من كانوا وراء تأميم الصحافة في مايو؟
-الكلام ده يا أستاذة كلام طويل جداً، فلا يمكن أن تضعي اتهاما للشيوعيين بهذه السهولة، أولاً؛ لأن مايو ليست شيوعية، وليست ثورة لديها أيدولوجيا معينة، مايو ثورة عندها برنامج وآفاق وتحرر، والشيوعيون هم في مطلعها رفعوا شعارات تقدمية، لذلك من السهولة أن تدمغ شخص بتهمة، وهذا الحديث سمعته كثيراً وتردد على مسامعي، وأغلب الأشخاص يقولونه من باب أنه يصبح ضد (زيد أو عبيد)، فمايو أممت الصحف وتبعتها بتنظيم فيه براح كبير وفيه حريات، والحرية التي تتبع للاتحاد الاشتراكي كانت واضحة، وتجربة استمرت على مدى ما بين (13 إلى 14) عاماً، والاتحاد الاشتراكي صار مسؤولاً عن (الجرائد) سنة 1973م.

* إذاً كيف تقيمين موقفك الآن من قرار تأميم الصحف؟
– شخصياً في رأيي أن تأميم الصحف كان خطوة سليمة ويجب أن تكون.

* لماذا؟
لأن مايو انقلبت على واقع متحكمة فيه الطائفية، ومتحكمة فيه الأفكار (الرجعية).. أقولها هكذا.. يبقى من غير الممكن أن تطرح برامج تقدمية وبرنامجا كبيرا، وتترك العمل الإعلامي عند أفراد أو في يد طائفة، لذلك أنا أحكم بالواقع، يعني مايو إذا لم تؤمم الصحف في ذاك الحين، كنت سوف آخذ وقفة وأتساءل: لماذا تترك مايو (الجرايد)؟، فقد تناقض خطها المطروح لعملية التغيير الاجتماعي لذلك فإن الكلام سهل، وأنا شهادتي (مجروحة) في مايو لأنني كنت جزءا منها، وإلى الآن يشكل موقفي في مايو قناعة لنفسي، وإلى الآن أنا في كامل الرضا عن موقفي في مايو مع أخطائها وانتصاراتها لأنها حزمة واحدة وأتحمل أخطاءها، وأتكلم عن إنجازاتها أيضاً، وأنا ضد الناس الذين يقيمون التجارب مجزأة، فالتجربة من المفترض أن تقيم بكلياتها السلبية والإيجايبة.

*ما صحة الادعاء الذي ينسب للصحافي المخضرم محجوب محمد صالح بأنه كان صاحب فكرة تأميم الصحافة في عهد مايو، هو والصحافي الراحل محجوب عثمان؟
– أولاً هذا الحديث ليس صحيحاً، والفكرة أن محجوب محمد صالح أوكلت له مهمة الترتيب، ولكنه ليس صاحب الفكرة، ومحجوب محمد صالح صحيفته ذاتها أُممت وهذا ينفي أنه صاحب الفكرة ولا حتى الأستاذ الراحل محجوب عثمان كان له دور في التأميم.

* متى كانت أسوأ فترة تمر بها الصحافة السودانية؟
– بوضوح شديد، أسوأ فترات الصحافة السودانية شهدها نظام الإنقاذ الحالي خلال العقود الثلاثة الماضية، وما زالت الصحف متأرجحة بدليل أن سعر الصحيفة الآن وصل لمرحلة بعيدة (7 جنيهات)، وهذا دليل على أن الصحافة تمر بمأساة هذه الأيام خاصة لو استصحبنا مدخلات إنتاجها من طباعة وورق وخلافه.

*هل ترين أستاذة آمال مستقبلاً للصحافة الورقية التقليدية مع ثورة الإعلام الإلكتروني؟
– شخصياً أنا ضد هذا الرأي، فالصحيفة الورقية والكتاب لا ينتهيان قطعاً ولا بديل لهما، ومن يقل إن الصحافة الإلكترونية سوف تقضي على الصحافة الورقية هذا حديث ليس منطقياً، لأسباب كثيرة وشرحها يطول.. خاصة ونحن في العالم الثالث، لذلك يجب علينا أن لا نتابع تطورات العالم الأول ذات الإمكانيات المهولة، فإذا أردنا أن نصنع صحافة إلكترونية يجب علينا أولاً أن نمحو (أميتنا الأبجدية)، وبعدها نتطور اقتصادياً لنصبح مثل أمريكا أو الغرب وبعدها نفكر في التكنولوجيا الإلكترونية.

* منْ مِنْ صحفيات هذا الجيل ترين فيها آمال عباس؟
– والله السؤال ده امتنع الإجابة عليه، لأني أرى أن هذا الجيل الحالي دون أن أسمي شخوصا هو أفضل منا، فالجيل الحالي جيل محظوظ، نحن (نحتنا الصخر بأظافرنا) وهو جيل مرتاح، أنا لما كنت صحفية ما كنت امتلك تلفون ولا راديو مريح، الآن ممكن جداً الصحفيات الوعدات الآن اللي (أنا قريتو في كذا شهر) يمكن أن تقرأه في شهر واحد فقط، فالفترة التي وصلتها آمال عباس في (كم سنة) يمكن هي تصلها في سنة واحدة، (ضاحكة).. مع المساعدات يعني!!

*ما هي أبرز المواقف التي تعرضت لها ودفعت فيها ثمناً باهظاً من أجل مهنة الصحافة؟
– شخصياً دفعت كثيراً من الأثمان، ولكنني لن أمتن على هذه المهنة، يعني أنا لا أقول (أنا دفعت كده في المهنة دي)، فمازلت أنا في طريق مطلوب مني أن أدفع الأكثر فيه.

* نريد منك تقييماً لرؤساء تحرير الصحف الآن وسابقاً؟
– دي مهمة صعبة يا (بتي) لأن كل جيل بمعطياته، وكل جيل بتأهيله، بمعنى الصحافة في العشيرينيات والثلاثينيات وحتى الخمسينيات، والذين قادوا الصحافة في هذه العقود يختلفون عن الآن، فهم فيهم العباقرة والناشطون وأيضاً فيهم أساتذة تركوا بصماتهم حتى الآن.

* معظم المايويين اشتركوا في الإنقاذ وآخرهم مصطفى البطل الذي عين ملحقاً إعلامياً في سفارة السودان بلندن، لماذا ابتعدت آمال؟
– (بعد أن أخذت نفساً عميقاً) قالت: هذه قناعات ذاتية، فكل شخص يقرر وفق شخصيته، والطبيعي القناعات الذاتية تحكمها أشياء كثيرة، وأشياء معينة، ويمكن هؤلاء قناعاتهم وصلتهم، ولكن آمال قناعاتها لم توصلها بعد.

*وجودك في صحيفة مصنفة الآن بأنها قريبة من الحكومة، هل يعني أنك أصبحت مصنفة أيضاً من كتاب وصحافيي الإنقاذ؟
– (منفعلة): لا.. بس يعني.. إلى الآن محتفظة باستقلاليتي جداً، ووجودي هنا في الصحيفة (قومية) لأنني لما التحقت بصحيفة الصحافة كانت قومية، ومازلت ماسكة هذا الخط.. وبعدين الحكم هنا يرجع لما (أنتج) ولما (أقول).!

* دور الصحافة والصحفيين في أوقات مثل الانقلابات؟
-لا.. لا.. هذه أيضاً أدوار تحددها شخصياتهم، لذلك لدي رأي محدد في أنه دائماً الناس بتقول ليك (العسكرتاريا والانقلابات).. أنا بفتكر المجتمع ما يحكم بأن هذا (مدني أم عسكري)، وأفتكر أن القوات المسلحة هي كجسم مسلح في العالم الثالث لعبت أدوارا متقدمة جداً وعلى رأسهم ثورة (يوليو)، في 23 يوليو عملت تحول في المنطقة كلها، و25 مايو بالرغم من الصوت الذي يعلو أحياناً أيضاً فهي لعبت دورا كبيرا جداً في المجتمع السوداني يعني مايو ما جلست على كرسي الرئاسة كثيراً (16 سنة ما حاجة كثيرة) لكن هذه البصمات واضحة، ومتقدمة.

* كيف كان رد فعل الصحافة السودانية وقتها لانقلاب هاشم العطا؟
– في ذلك الوقت حينما جاء هاشم العطا الصحافة لم تكن كثيرة، وبعدين فترة الانقلاب كانت بسيطة لذلك لم تتضح الرؤية اذ لم تحصل رد فعل حينها، و19 يوليو كان حدثا مفاجئا، لذلك تصنيفي لها باعتبار أنها كانت (حماقة) ومصيبة في مسار تاريخ السياسة السودانية.

* كلمة أخيرة: بماذا توصين شباب الصحفيين الآن؟
– القراية أولاً، وعدم الاستعجال في أي شيء، فالتعصب الفكري لا يقود الصحفي في الاتجاه الصحيح، الصحفي لابد أن يكون موسوعيا في اطلاعه، ويكون شاملا ومثقفا ويعرف أي شيء.. بمعنى أن يقوم بكل المهام الصحفية من تحقيق وحوارات صحفية وأخبار وغيرها.

اليوم التالي.