رأي ومقالات

كوامن الفشل في مشاريع تقنية المعلومات الحكومية في السودان.. (بئر معطلة وقصر مشيد)


كوامن الفشل في مشاريع تقنية المعلومات الحكومية (1)
لعل كثير من أصحاب الشأن في مجال تقنية المعلومات في القطاع الحكومي من مقاولين (أصحاب مصلحة) ومديري تقنية معلومات بالمؤسسات الحكومية يدلفون إلى تطوير البرامج وتركيب الشبكات بإعتبار أنها الحوسبة التي ستطور العمل وتمضي بهم نحو الحكومة الإلكترونية، وتُصرف الأموال ويُحتفى بتدشين المشاريع، ولكن لا تُجنى الفوائد المرجوة ولا تكون التكلفة مقابل الفوائد مبررة، وبالمحصلة تستمر المؤسسات والدواوين الحكومية ترزح تحت ضعف الأداء رغم تناثر الحواسيب على مكاتب الموظفين وتشابك أسلاك الشبكات على الجدران (بئر معطلة وقصر مشيد)..

في تقديري أصل المشكلة إبتداءً في غياب هياكل إدارية بأوصاف وظيفية واضحة وعلاقات إتصالات رأسية وأفقية محددة ومعرفة جيداً (الهياكل الإدارية لا تعني مخطط صندوقي للمستويات الإدارية فقط)، والأهم من ذلك عدم وجود إجراءات عمل جيدة وفعالة وموثقة في معظم المؤسسات الحكومية.

لتقريب العلاقة بين تطبيق الحوسبة ووجود نظام جيد وفعال في المؤسسة سأمثل لها بالتورتة، وكلنا يعرف التورتة فقاعدتها عبارة عن (كيكة) في الأصل ومن ثم يتم تزيينها بالكريمة ليكون شكلها جميل وجذاب. (الكيكة) تمثل النظام الإداري الجيد وإجراءات العمل الفعالة والموثقة، و(كريمة التزيين) تمثل الحوسبة لتحسين الاداء وأتمتته في المنظومة الإدارية الفعالة القائمة أصلاً، وتسريع إنجاز الأعمال، وتحقيق الشفافية وغيره من الفوائد المعلومة للحوسبة. وتطبيق الحوسبة على منظومة إدارية معتلة أصلاً كالتزيين بالكريمة دون وجود الأصل (الكيكة) – يعني جلبطة بالبلدي !!!

لذلك يجب ألا نقفز إلي إعلان العطاءات وتنفيذ التطبيقات والشبكات دون المرور بمراحل مهمة تضمن الإستفادة من المال المبذول في مشروعات التقنية بأفضل وجه، ويمكن إجمال بعضها في الآتي:

أولاً: قبل الشروع في تطوير البرمجيات وتركيب الشبكات يجب الإستعانة بإستشاريين وخبراء لتقييم نظام العمل وتقويمه وإعادة هندسة إجراءات العمل، وتوثيق أدلة الإجراءات، وكذلك إعداد ادلة الهياكل الإدارية والوصف الوظيفي من أعلى المستويات الإدارية لأدناها، وتأكيد تبنيها وتطبيقها بالمؤسسة. ومن غير ذلك ستكون الحوسبة إهدار للموارد لانها ستكون أشبه بوضع (الكريمة) بلا (كيكة)!. إذا تم تطبيق ذلك على كل مؤسسات الدولة نصل إلى مرحلة جيدة في (حوكمة) الدولة وبالتالي تخرج (الحكومة الإلكترونية) من عنق الزجاجة. أرى أن هذا العمل يجب أن يكون جزءً اصيلاً من برنامج لإصلاح الدولة.

ثانياً: إتباع أفضل الممارسات في مجال الأعمال. لاحظت أن القوانين واللوائح والإجراءات المنظمة للعمل في المؤسسات الحكومية عبارة عن فتق ورتق وتشوهات متراكمة لا تكاد تستبين خلالها الممارسات الأصيلة المتبعة لأداء الأعمال، ومعظم الأعمال ليست بدعاً سودانية، وتوجد لها ممارسات جيدة عالمياَ يمكن إتباعها. والعاملين في المجال يعلمون لو انك إستجلبت نظام من SAP أو Oracle مثلاً، والتي بُنيت على أفضل الممارسات المتبعة عالمياً لتطبيقها في السودان – القطاع الحكومي – سيكون تطبيقها عسيراً إلا بتعديلات كبيرة وكثيرة لتتماشى مع التشوهات في نظم العمل. لذلك يجب العمل على إزالة تلك التشوهات في إطار تنفيذ برامج الحوسبة وإتباع أفضل الممارسات، وعدم تصميم برامج مشوهة لتتلاءم مع الوضع القائم والمختل أصلاً.

ثالثاً: في تقديري طلبات تقديم العروض Request For Proposal (RFP) في كثير من المشاريع التي تمت وتجري الآن ضعيفة جداً وتفتقر إلى الإحترافية (إشتكى لي منها عدد من ممثلي الشركات خاصةَ الأجنبية منها) لأنها لا تعد بطريقة جيدة، والمقدمات السيئة تؤدي إلى نتائج مثلها. وهذا لوحده واحد من أكبر كوامن الفشل في المشاريع.

قبل الولوج إلى جمع وتحليل المتطلبات ووضع المواصفات الوظيفية والفنية والبدء في البرمجة وتركيب الشبكات هنالك عمل إستباقي مهم وكبير – اوردت بعضه اعلاه – يجب ان يشمله نطاق العمل في مشاريع الحوسبة في القطاع الحكومي حتى وإن استغرق وقتاً وكلف جهداً ومالاً لنجني الثمار المرجوة من الحوسبة.

السعي نحو الحكومة الإلكترونية ليس برامج وشبكات فقط، إنما هو في الأصل نظم إدارية وإجراءات عمل فعالة تعززها التكنلوجيا لتحقيق الرفاه للمواطن، وزيادة كفاءة مؤسسات الدولة.

كوامن الفشل في مشاريع تقنية المعلومات الحكومية (2)

عمدتُ في جزء أول لهذا المقال إلى التركيز على العوامل الداخلية بالمؤسسات الحكومية التي تشكل كوامناً لفشل مشروعات الحوسبة في القطاع الحكومي ولعلي صوبت نحو تشخيص العلل حتى يتسنى إيجاد العلاج، ولا تنفك هذه العوامل الداخلية عن عوامل أخرى على مستوى قطاع تقنية المعلومات في الدولة ككل هي أكبر أثراً وأشد خطراً. وللتركيز على كوامن الفشل ذات الأثر الكبير سأجملها في النقاط الرئيسة التالية:

أولاً: غياب خطة إستراتيجية قومية لتقنية المعلومات والتحول الرقمي:
يُلاحظ أن الحوسبة في القطاع الحكومي تأتي من مبادرات ظرفية أو شخصية في ظل غياب خطة إستراتيجية قومية للإتصالات وتقنية المعلومات والتحول الرقمي بالبلاد – بحثت ولم اهتدِ إلى وجودها. إن الحكومة الإلكترونية لن تتحقق بتنفيذ هذه المؤسسة أو تلك لمشاريع حوسبة وكل مؤسسة تعمل لوحدها كجزيرة معزولة! ولعل الجميع يعلم أن الحوسبة والتحول الرقمي لم يعد ترفاً أو رفاهية إنما هو ضرورة لا غنى عنها للدولة ولحياة الناس ومعاشهم وإقتصادهم ومعاملاتهم.
إن على الدولة ممثلة في الجهات المعنية (وزارة الإتصالات وتكنلوجيا المعلومات ومؤسساتها) صياغة خطة إستراتيجة قومية لتقانة المعلومات والتحول الرقمي تتنزل خططاً تشغيلية وبرامجاً لمؤسسات الدولة المختلفة حتى تكون مشاريع الحوسبة متناغمة وموجهة نحو هدف كلي واحد.
إن الجهود المبعثرة القائمة حالياً ستجابه مشاكل عديدة لم يُتحسب لها من نواحٍ تقنية وسياسية وإجرائية مثل سياسات وإجراءات تبادل المعلومات بين موسسات الدولة ومعايير الترابط بينها وغير ذلك كثير لأن المجهودات القائمة لم تبنى على إستراتيجية موحدة. على سبيل المثال لا الحصر السجل المدني، الجوازات، الشرطة، الضرائب، الجمارك، المؤسسات المالية، وزارة الصحة … الخ كلها أو بعضها ستحتاج لتبادل المعلومات والترابط فيما بينها في إطار خدمات الحكومة الإلكترونية.

ثانياً: وجود الشركات الحكومية في السوق وضعف القطاع الخاص لغياب الشفافية في المنافسة:
نحت كل الدول التي تطورت في توظيف تقنية المعلومات وغيرها لخدمة الدولة ورفاه المواطن إلى القطاع الخاص كركيزة أساسية لإنجاز المشاريع. وخروج شركات الحكومة تماماً من عمليات التنفيذ والتشغيل لمشاريع الحوسبة ضرورة لا مناص منها. قد يجادل البعض أن هنالك تجارب لشركات حكومية او شبه حكومية ناجحة في مجال البرمجيات في الفترة الماضية، وأرد على ذلك أن منح المشاريع الحكومية الكبيرة لأي جهة يمنحها أفضلية ومقدرة مالية تمكنها من توظيف المتميزين والحصول على الموارد البشرية والتقنية اللازمة وبالتالي تنفذ المشاريع الممنوحة لها (بعض تلك الشركات الحكومية تمنح الفتات لشركات خاصة تنتقيها دون معايير واضحة بمقاولات من الباطن لتنفيذ المشاريع!)، لكنني أكاد أجزم أنه لو أتيحت ذات الفرصة للقطاع الخاص بمنافسة شفافة وضوابط صارمة في كل دورة حياة المشروع (Project Life Cycle) لكانت الفائدة المحققة أكبر، والأهم من ذلك أن الفوائد المتحققة مقابل التكلفة كانت ستكون أعظم لأن القطاع الحكومي يحاسب بعضه بعضاً بمنطق (زيتنا في بيتنا!).
لتطوير صناعة البرمجيات وتقنية المعلومات، وبالتالي تنفيذ مشاريع الحوسبة بكفاءة وجودة أرى انه من واجب الدولة تقوية القطاع الخاص ومنحه الفرصة للنمو والتطور وخاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة SME، وسيكون لذلك مردود إقتصادي ومعرفي واعد للبلاد لأن صناعة تقنية المعلومات من صناعات المستقبل المهمة والتي لا غنى عنها ولا يجب ان تكون كسيحة ضعيفة. كذلك يجب تعزيز الشفافية والمنافسة الشريفة في ترسية عطاءات مشاريع التقنية الحكومية على شركات القطاع الخاص حتي تستقيم الأمور.
ويرى ابن خلدون في مقدمته المشهورة أن “التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية” وهو رأي سديد حكيم.

ثالثاً: عدم وجود أو وضوح دور الجهات التنظيمية والرقابية:
كما أسلفت فإن تنفيذ مشاريع تقنية المعلومات الحكومية يجب ان يُترك كليةً للقطاع الخاص وهذا يستلزم ان يكون للدولة جهات تنظيمية قوية ومقتدرة فنياً ومهنياً لوضع المعايير القياسية والأدلة الإرشادية التي تحكم تنفيذ مشاريع تقنية المعلومات في القطاع الحكومي. كذلك يجب ان يكون لهذه الجهات (وفي تقديري هذا دور المركز القومي للمعلومات) موجهات واضحة ومنهجية في إختيار التكنلوجيا ومعايير تأمين المعلومات والإتصالات وكذلك ما يتعلق بالشهادات والتواقيع الرقمية والتحقق، وذلك لأهميتها في تبادل المعلومات وإجراء المعاملات بأمان وموثوقية. وأشدد على أن دور المؤسسة التنظيمية يجب أن يكون تنظيمياً بحتاً ولا يجب إطلاقاً أن تتولى تنفيذ أو تشغيل أي مشروع.
ولا بد ان يكتمل الدور التنظيمي بدور رقابي فاعل وصارم يضمن إلتزام المؤسسات الحكومية والشركات المنفذة بإستيفاء المعايير القياسية الموضوعة من قبل الجهات التنظيمية في تنفيذ المشاريع. ومما يؤسف له أنه لا يوجد بالبلاد مختبرات أو هيئات حكومية تقوم بإلاختبارات – غير الوظيفية – للتحقق من جودة البرمجيات والحلول المنفذة بالقطاع الحكومي وإجازتها، ويمتد ذلك للمعايير التأمينية أيضاً!!! والأمر متروك كليةً لإدارات التقنية بالمؤسسات الحكومية والتي تفتقر كلها تقريباً لمتخصصين في جودة البرمجيات وأمن المعلومات!!!

رابعاً: ضعف القدرات في إدارة المشاريع التقنية في القطاع الحكومي:
إذا سلمنا جدلاً بتلافي كل المعضلات المذكورة أعلاه ودلفنا إلى مرحلة تنفيذ المشاريع سنجد أن كثيراً من الإدارات المعنية بإدارة مشاريع تقنية المعلومات بالقطاع الحكومي تفتقر إلي القدرات الإدارية والفنية اللازمة، وبالتالي ستنفذ المشاريع بطريقة سيئة ولا تحقق الاهداف المرجوة منها. لذلك فإن على الدولة تبني منهج التعهيد الخارجي outsourcing لشركات إستشارية تقوم بجميع العمليات الإستشارية لتنفيذ المشروعات التقنية بالقطاع الحكومي إبتداءً من تجهيز طلبات العروض RFP مروراً بتفاصيل العطاء المختلفة والمواصفات الوظيفية والفنية ومتابعة التنفيذ والإختبارات والتدريب وإصدار شهادات الإنجاز والإستلام وما إلى ذلك من أنشطة. وذلك يعني ان تقوم شركة بالأعمال الإستشارية وأخرى بالتنفيذ او التشغيل تحت ظل ضوابط الجهات التنظيمية المعنية، والمراقبة الصارمة من الجهات الرقابية، وذلك سيضمن سلامة تنفيذ مشاريع الحوسبة بكفاءة وتحقيق اهدافها.
هذا النموذج اصبح ممارسة متبعة عالمياً وفي أنجح الدول التي تطبق الحكومة الإلكترونية بخطى ثابتة وتقدم مستمر – مثل حكومة دبى بالإمارات العربية المتحدة على سبيل المثال – وإتباع هذا الأسلوب يستلزم أن تقوم الجهات التنظيمية في الدولة بوضع ضوابط له ومعايير واضحة وشاملة لتأهيل الشركات الإستشارية.

إن الإتجاه نحو التحول الرقمي والحكومة الإلكترونية ضرورة إن تجاوزناها سيتجاوزنا الزمن وحركة الخدمات والمال والأعمال في العالم من حولنا، ولكن السعي نحوها – أي الحكومة الإلكترونية – يجب أن يكون مُخططاً لأهدافه الإستراتيجية بمنهجية وإحترافية تستوعب حاجات ومتطلبات البلاد، وأن تُنفذ بآليات ومؤسسات محددة المهام والواجبات لها قدرات مهنية ترتقى لِعظَم المهمة، وكل ذلك في ظل شفافية ومنافسة شريفة عادلة تعزز دور القطاع الخاص وتنميه لفائدة البلاد والعباد.

بقلم
هشام أحمد علي