عندما يرسب المعلّمون!

عندما يرسب أكثر من (70)% أو (8460) معلماً في امتحان تجريه وزارة التربية والتعليم للتحقق من كفاءتهم لممارسة المهنة، فإن ذلك ينبغي أن يحل لنا لطم الخدود وشق الجيوب وإطلاق حناجرنا بالصراخ (والكواريك) حزناً على ما آل إليه حال التعليم العام في بلادنا.

وعندما يرسب غالب خريجي الإعلام والقانون في امتحان القيد الصحفي وممارسة مهنة المحاماة، فإن ذلك ينبغي أن يجعلنا نهيل التراب على رؤوسنا خوفاً وفرقاً على حال التعليم العالي، بل وعلى مستقبل وطن يشهد تردياً في أهم معاول البناء والنهضة، وهل يحدث التطور والنهضة في عصر العلم والمعرفة إلا بالتعليم؟!

أرجع لتدني كفاءة المعلمين الذي لم تشهد عليه المعارضة السياسية إنما شهد عليه شاهد من أهلها، وأعني به وزارة التربية والتعليم لأسأل ما الذي حدث حتى نُصاب بهذه الفاجعة؟ صدّقوني أني لم أصدّق الخبر الموجِع في البداية، لولا استيثاقي من مصدره.. كيف أصدقأ وقد خالطتُ عدداً من المعلمين أصحاب الكفاءة والتميز من خلال إشرافي على أربعة مجالس تربوية في مرحلتي الأساس والثانوي؟! أم إن هؤلاء المتميزين جزء من القلة التي اجتازت ذلك الامتحان الفاضح؟!

قبل أن أستطرد أرجو أن نسائل أنفسنا جميعاً قبل أن نواصل التأمل في ذلك المصاب الجلل: من هو المسؤول يا ترى عن هذا التردي المريع الذي أصاب التعليم بل أصاب كل خدمتنا المدنية مما انعكس عل كل أوجه الحياة في بلادنا؟

أهو المعلم (الغلبان) الذي يُعاني من ضيق العيش وتدني المكانة الاجتماعية، بعد أن كان في سالف الأيام قائدًا مجتمعياً في محيطه الجغرافي على امتداد ريف السودان وحضره أم وزارة التربية والتعليم أم الحكومة الاتحادية والحكومات الولائية التي حطّت من قدر التعليم حتى غدا في مؤخرة اهتماماتها وصرفها التنموي أم كارثة الحكم الفيدرالي الذي أفقر السودان وشعبه؟!

لكي أعقد المقارنة بين حال التعليم قديماً، وحديثاً أود أن أذكر بتعامل الدولة السودانية قبل الإنقاذ مع التعليم العام والعالي من خلال إعداد المعلم الذي يعتبر بلا أدنى شك اللبنة بل الدعامة الأساسية التي يقوم عليها البناء.

نشا معهد التربية ببخت الرضا عام 1934 في عهد الاستعمار البريطاني على يد الخبير الانجليزي (مستر قريفيث) ليؤسس للتعليم من خلال إعداد المعلم والمنهج، ولن أطيل الحديث حول تلك التجربة العبقرية التي وئدت في ليل حالك السواد ولا مجال لأية نهضة إلا بالعودة إليها أو التأسي بها وهي، والله العظيم، أولى من إعادة النظر في (خرمجة) البكور التي (قطعناها من راسنا) وخالفنا بها العالم أجمع.

كان المعلم يقضي سنتين تدريبيتين في بخت الرضا بمدينة الدويم يمارس خلالهما التدريس تحت رقابة أعظم موجّهي التعليم في السودان ولستُ في مقام الحديث عن المنهج وكيفية إعداده للمقارنة مع (الهرجلة) الحادثة الآن.

أما التعليم العالي، فقد تفتقت عبقرية رواد التعليم عن إنشاء معهد المعلمين العالي الذي انضم إلى جامعة الخرطوم لاحقاً.

من يصدق أن معهد المعلمين العالي كان مقدماً لدى طلاب الشهادة الثانوية السودانية على جامعة الخرطوم نظراً لتجربة الحافز الكبير الذي كان يُمنح للطالب الملتحِق به مع ضمان الوظيفة بعد التخرّج والتي كانت بدورها مجزية، الأمر الذي كان يدفع الطلاب والآباء الفقراء لتقديمه على جامعة الخرطوم؟!

كان الأذكى والأعلى مجموعاً من الطلاب هم من يلتحقون بذلك المعهد الذي يخرج صفوة متميزة تخضع خلال سنوات التأهيل الأكاديمي الأربع لتدريب كبير على منهج متميز وعلى أيدي (دكاترة) متميزين.

أما اليوم فحدث ولا حرج، ذلك أن كليات التربية في الجامعات هي الأدنى من حيث الدرجات التي تؤهل للقبول بها.

أما تعليم الأساس فإن المعلم يأتي من الجامعة أو المدرسة الثانوية مباشرة إلى المدرسة بعد أن يَئِس من الحصول على وظيفة أخرى حتى لو كان خريج تربية!

أقسم بالله إن ابني في الصف الثالث أساس قال لي قبل سنوات خلال مراجعتي معه لدرس في اللغة العربية إن المعلم قال لهم إن هناك خطأ طباعي في كلمة (بمكة) التي كان ينبغي أن تكون فيها كسرة! سألت فعلمت أن المعلم خريج اقتصاد! خريج القانون أو الاقتصاد يمكن أن يدرس إنجليزي أو لغة عربية بدون أن يخضع لأي تدريب !

تتفاوت الولايات، فالخرطوم لا شك هي الأفضل من الولايات الأخرى التي هجرها حتى أهلها هرباً إلى الخرطوم ، التي أوشكت، جراء سوء التخطيط والتنمية غير المتوازنة، أن تستوعب كل السودان.

ما أصاب التعليم لا يمكن وصفه بغير الكارثة.. هل أتحدّث عن السلم التعليمي الذي يُغيَّر كل بضع سنوات أم عن المنهج أم عن الفاقد التربوي السنوي أم عن الأمية التي عادت من جديد بعد أن كان أهل الإنقاذ يتباهون بثورة التعليم العالي؟ إحصائية اليونسكو قالت إن عدد من فاتهم قطار التعليم من الأطفال بلغ ثلاثة ملايين !

بعد كل هذا..هل نبكي من رسوب (70)% من المعلمين أم إن الأمر أكبر من ذلك؟!

الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة

Exit mobile version