الصادق الرزيقي

بعيداً عن السياسة قريباً من الشعب ..!


في كثير من الأحيان ولربما في كل الأحوال، تبدو السياسة عملاً عبثياً لا طائل تحته، إذا كانت لا تجد حلولاً فورية ناجعة لقضايا الناس وعامة الشعب، وليس هناك ما هو أكثر بؤساً من السياسيين الذين طلقتهم السياسة ولم يطلقوها، لأن العصمة بيدها دائماً، وهم يعيشون حياتهم من جديد وسط المجتمع بلا بريق ولا سلطة ولا مواقف،

يتحولون إلى كائنات تائهة تحت ظلال الأضواء الذابلة والخافتة .. فالسياسة ليس لديها فوائد ما بعد الخدمة ولا تضمن مصروفاً معاشياً أو ضماناً اجتماعياً، تنتهي بانتهاء المهمة التي يتأبَّط خطامها السياسي، ثم يمضي حال سبيله « وكأنه لم يأتِ قط « كما يقول الفيتوري رحمه الله:
> هل تتملص السياسة من قيود طلابها، مثلما هي تلفظهم كنواة الثمرة؟ نعم ..لا تطيق السياسة السياسيين من فاقدي الحيلة وعديمي الموهبة، هي تريد السياسي الذي كلما طردوه من باب جاء من النافذة، ووقتما ركلوه منبوذاً تبسم وعاد، ولذلك تجد الكثير من السياسيين الذين يخالفون المثل الدارفوري المتعلل بالجرادة ( أم جُركم ) التي لا تأكل خريفين أي لا تعمِّر لعامين، فكثير من السياسيين المحترفين لدينا، عاشوا في كنف السياسة، يغيرون جلودهم كما الأفاعي، يصبغون وجوههم كالبهلوان وكلاعبي السيرك السياسي، لا يحجبهم عن هذا الحب الجنوني شيء، ولا يعصمهم عاصم من أن يذبحوا المبادئ على نصب المطامع والمصالح ..
> تذكرت ذلك وأنا في المملكة المغربية، شاهدت بالصدفة المحضة في مكان عام .. سوقاً من (أسواق الله أكبر) رئيس الوزراء السابق عبد الإله بن كيران، بعيداً عن السياسة التي فارق عرصاتها، وغادر السلطة التي كان على رأس حكومتها، ترجل عن الأمانة العامة في حزبه وهو الحزب الذي يحكم، رايته سادراً على كيفه، وألفيته لم يسجن نفسه في شرنقة العمل السياسي، أو تعلل بأنه الوزير الأول وقائد الجهاز التنفيذي، وكان ثاني اثنين بعد الملك في قيادة الدولة، لم يحط نفسه بعد خروجه بما يعلق بالمسؤول الرفيع من بعض المرافقين ومن تفردهم له الوظيفة العامة السابقة لخدمته و إدارة شؤونه، انداح عادياً وسط الجموع وهو منهم، يعيش كما يعيشون ..
> لدينا نماذج مثله، لكن الغالب في أهل السياسة عندنا ولو كان مسؤولاً في وظيفة دستورية قصيرة الباع والذراع، تتقمصه روح شوهاء من لفحها تنتفخ أوداجه، ويعلو زفير خياشيمه، ويصعر خده، كأنه ( ضُل الضُحى ) لم يزل مخيماً عليه ويلقي بردته السوداء فوقه ..! هل السبب هو تنشئتنا السياسية وطبيعة السلطة والنظام الأبوي الذي رسخته الإدارة الأهلية وكان جزءاً من تأثيراتها الجانبية، أم أن السياسة بخطاياها تنتج عنها تحولات اجتماعية ونفسية عميقة الغور، ويصل سكينها العظم ..
> إذا كان المجتمع أضعف من السلطة وأقل شأناً منها، ربطت السلطة المواطن بها، قد يكون مثل ثور الرحى يدور ويدور، ويتعود على الدوران حتى وإن أراحوه مد قرنيه للفضاء ودار!. يجب أن نفكر في جعل السياسة مجرد واجب يؤديه السياسي وعندما ينتهي من تكليفه يعود إلى قواعده سالماً.
> فالملاحظ منذ الستينيات من القرن الماضي وحتى اليوم، لم يعد 60% من نواب البرلمانات والجمعيات التأسيسية ومجالس الشعب والمجالس الوطنية، لم يعودوا للعيش مرة أخرى في دوائرهم استوطنوا العاصمة، إما لتكرار عملية انتخابهم أو لعدم قدرتهم على التأقلم مع البسطاء الذين انتخوبهم، وكذلك الوزراء وكبار مسؤولي الحكومات من أعلاها إلى أدناها.. لا يستريحون من دورة إلا يتأهبون لأخرى، ولا يحضنون مغنماً إلا أرادوا المزيد ولا يفترسون فريسة إلا وتوثبوا لغيرها ..!
> السياسة تحولت إلى حرفة يحترفها مريدوها، وصناعة يتفنن أسطواتها في تشكيل منتجاتها حسب الحاجة والطلب، ومن الصعب أن تنصلح الممارسة اذا كان الفعل نفسه مطلوباً لذاته، ومجلوباً بمنفعته.. ومن المؤسف أن أدبياتنا السياسية ليس فيها ما يعصم أو يجعل السياسي يرعوي من الإسراف لعب الأدوار التي لا تليق به .. فهل نطمح أن نرى من القيادات من يكون دائماً بعيداً عن السياسة وقريباً من الشعب ؟!..

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة