الصادق الرزيقي

هل كرهها وطلقها.. واستراح؟؟!!


(أ)
لم يكن مثقفاً ولا خطيباً مصقعاً لا يشق له غبار، جل ثقافته استمدها من مذياع قديم ابتاعه نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي من تاجر إغريقي بسوق أم درمان، ثم أتى به مدينة نيالا بشعور دافق وافتخار مشبوب كأنه حاز الدنيا وما فيها،

ذاك قبيل زيارة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود بأشهر قليلة عام1965م، وحين وطئت أقدام العاهل السعودي تراب المدينة وأقام في قصر ضيافتها التقليدي على الضفة الشمالية لوادي (برلي)، كان الجنيه السوداني يساوي (25) ريالاً سعودياً، وكان الناس يعيشون بأرواح العصافير المشقشقة، كما الحمائم في سلام، والأيك في وئام، والحياة كانت زاهية كقطعة منسوجة من خيوط الشروق، وعباءة من سحابة بيضاء أنقى من تلك القلوب الصافية.
كان صاحبنا بمذياعه وهو من ماركة عريقة عتيقة، يحتل مكاناً شاخصاً في الحي، ومجلساً في مقهى (دقوش) بالسوق الكبير قبالة موقف عربات التاكسي عند النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، لا يثرثر إلا في السياسة، ونتف من ريش هذه السياسة، الشؤون الخارجية، لم يكن قط يتحدث عن الشأن الداخلي ونظام مايو يومها غليظ العصا مظلم الزنازين، كثير الشكوك، خاصة بعد أحداث يوليو 1976م.
ولعله في شرود عتيد خارج دائرة الهم الوطني المحلي، راكم في ذاكرته واهتماماته، ما كان يلتقطه ويهضمه من أخبار هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) وراديو(صوت أمريكا) ثم إذاعة (مونتي كارلو) التي كانت وليدة تبث من جنوب فرنسا، حفظ أسماء المذيعين ومقدمي البرامج وأصواتهم وموسيقى مقدمات البرامج الحوارية والسياسية، وكان لا يُجارى في معرفة المذيعين بمجرد خروج كلمة واحدة من أفواههم عبر الأثير، فيصيح بأسمائهم كأنه يعرفهم وزاملهم سنين عدداً، أو عاشوا معه وجابوا معه طولاً وعرضاً دروب الحي العريق بنيالا، وخاضوا معه مياه البرك وسمعوا خرير الماء في الخيران وهدير وادي (برلي) في ليالي الخريف المظلمة.
(ب)
كان الشتاء دافئاً عند مجيئه في بداية نوفمبر 1978م، عندما هبَّ صاحبنا هائجاً مع سخونة الطقس السياسي العربي، وهو ينقل لمستمعيه في ساحة الحي أو عند مقهى (دقوش) وحوله كثير من (الأسطوات والصنايعية) وسائقي عربات التكاسي، عن القمة العربية التي انطلقت في بغداد، وطلبها الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين كرد فعل بعد توقيع الرئيس المصري أنور السادات على اتفاقية كامب ديفيد مع العدو الصهيوني، التي انقسم معها العالم العربي وتفرق أيدي سبأ، كان يحكي عن القمة كأنه كان جلوساً مع القادة العرب من الملوك والرؤساء والأمراء، وكل ذلك استوحاه من دقة النقل الإذاعي والصور الصوتية التي كانت تجسدها تقارير المذيعين والمراسلين عبر أجهزة الراديو… وكانت يومها بغداد هي بغداد، والأمة العربية غير التي نراها اليوم.. ونيالا النابضة بكل جديد ومنفعلة بما يدور حولها في الوطن العربي الكبير، غير المدينة التي أنهكتها اليوم معسكرات النزوح وتفرق الأحباب كلٌ في طريق!!
(ت)
تذكرت هذا الرجل ومذياعه الأثير، وهيئته المألوفة، واهتماماته السياسية الواسعة، والزمان تغير جلده كثعبان ملعون، يتلوى بخبثه وغدره وخلقه الخؤون.. بعد أيام قلائل تنعقد قمة عربية جديدة، في المملكة العربية السعودية في مدينة الظهران، وأقل ما توصف به حالة الأمة الراهنة ومجيء القمة، أنها قمة تلتئم في ظل انقسام قاتل، وتفرق مقيت، وواقع شائه مكروه، وخطاب سياسي عربي ينحدر بالأمة وتاريخها إلى أسفل سافلين بفعل الخلافات التي لا تحل، وسط تكالب وتداعي الأمم الأخرى على العرب كما يتداعى الأكلة على قصعتها، والعرب غثاء كغثاء السيل.
ترتعش الكلمات كلما اقتربت قمة عربية، لأنها تعرف أن كل بيان سياسي عربي منذ سبعين عاماً ويزيد يولد مفقوء العينين، مطبق مذموم الشفتين، صمت يرعد وطين صم الأذنين … كأن القمم ظلت تضع أصابعها على آذانها من صراخ الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب:
تقسيم آخر
لا نخدع ثانية بالمحور أو بالحلفاء
فالوطن الآن على مفترق الطرقات
وأقصد كل الوطن العربي
فإما وطن واحد أو وطن أشلاء
لكن مهما كان فلا تحتربوا
فالمرحلة الآن
لبذل الجهد مع المخدوعين
وكشف وجوه الأعداء
المرحلة الآن لتعبئة الشعب إلى أقصاه
وكشف الطباخين
وأي حصاة طبخوا بالوعد وبالماء
هذي مرحلة ليس تطول
وأول سيف يشهر ضد الثورة
مشبوه عن سابع ظهر
من كل الفرقاء
لا تنسوا أن سلاح الكحالة ضد فلسطين جميعا
جزء أو أجزاء
كشف البطل اللعبة
أما التفتيش
فما كشف شيئاً في الأشياء
تتوحم هذي الرجعية ليلاً نهاراً
فلا تنسوا تزييت بنادقكم
أيلول مازال هنا يتربص في الأنحاء

(ث)
القمم العربية منذ بداياتها الأولى ومفتتحها استنسخت سوق عكاظ، كانت مهرجاناً للخطابة والتمرغ والتراكم فوق تراب الكلام كما قال الفيتوري، وعندما تقرأ البيان الختامي أو القرارات التي صدرت في أول قمة عربية احتضنها قصر (أنشاص)ــ (60 كيلومتراً شمال القاهرة) في عام 1946م، عندما دعا لها الملك فاروق، ستجد أن القمم العربية على مدى (72) سنة لم تختلف في قراراتها وبيانها الختامي، تتطابق العبارات والكلمات والقرارات التي ما قتلت ذبابة.
فمنذ القمة التي تجمعت فيها (7) دول عربية مؤسسة للجامعة وشارك فيها (الملك فاروق ملك مصر والأمير عبد الله الأول ممثلاً لإمارة شرق الأردن التي تأسست بعد الانتداب البريطاني على فلسطين، والأمير سعود بن عبد العزيز آل سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية، وسيف الإسلام إبراهيم بن يحيى حميد الدين نجل إمام اليمن يحيى حميد الدين، وعبد الإله بن علي الهاشمي الوصي على عرش العراق، وبشارة الخوري أول رئيس للجمهورية اللبنانية بعد الاستقلال، وشكري القوتلي رئيس سوريا…)
لم تختلف القمم العربية على مدى هذه السنوات عن سابقتها، تكاد العبارات تتطابق وتتماهى وتتحد، فانظر أيها القارئ العزيز إلى ما صدر في يوم 29 مايو1946 بعد يومين من المداولات والنقاش المستفيض:
1/ مساعدة الشعوب العربية المستعمرة على نيل استقلالها.
2/ قضية فلسطين قلب القضايا القومية، باعتبارها قطراً لا ينفصل عن باقي الأقطار العربية.
3/ ضرورة الوقوف أمام الصهيونية، باعتبارها خطراً لا يداهم فلسطين وحسب وإنما جميع البلاد العربية والإسلامية.
4/ الدعوة إلى وقف الهجرة اليهودية وقفاً تاماً، ومنع تسرب الأراضي العربية إلى أيدي الصهاينة، والعمل على تحقيق استقلال فلسطين.
5/ اعتبار أية سياسة عدوانية موجهة ضد فلسطين تأخذ بها حكومتا أمريكا وبريطانيا هي سياسة عدوانية تجاه كافة دول الجامعة العربية.
6/ الدفاع عن كيان فلسطين في حالة الاعتداء عليه.
7/ مساعدة عرب فلسطين بالمال وبكل الوسائل الممكنة.
8/ ضرورة حصول طرابلس الغرب على الاستقلال.
9/ العمل على إنهاض الشعوب العربية وترقية مستواها الثقافي والمادي، لتمكنها من مواجهة أي اعتداء صهيوني داهم.
أليست هي ذاتها البيانات الختامية ومقررات القمم وتوصياتها وقراراتها التي تصدر كل مرة إلا قليلاً؟!
(ج)
عندما نرى وجوه الحكام والقادة العرب في قمتهم المقبلة، يجب أن نتذكر أن الوضع العربي بات لا يحتمل أسواق الكلام، ولا الاستغراق في الأحلام والأمنيات والنوايا الحسنة، نريدها (قمة) لا تتحول إلى (غُمَّة)، فهل تنجح الرياض في تحويل مسار التاريخ إلى حيث تقف الشعوب العربية التي تريد من حكامها وقادتها أن يأتوا في موعدهم؟
هل ستكون أمتنا قوية بما يكفي لمجابهة تحدياتها.. أم أنها القمة الأخيرة قبل صفقة القرن، ودمار سوريا، وضياع العراق، وحرب اليمن، وحصار قطر، وتمزق ليبيا، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وجريان الدم الفلسطيني وأفواج الشهداء التي تتصاعد في مسيرات العودة ويوم الأرض ..؟
(ح)
لا ندري أين ذاك الرجل ومذياعه القديم في مدينة نيالا، هل يا ترى ترك السياسة وطلقها وكرهها وحطم جهاز الراديو.. واكتفى وهو في خريف العمر، باليأس والقنوط والضياع… ترك الأمة العربية وأحلامها وأشواقها واكتفى من الغنيمة بالإياب..؟ هل تراه أغلق الراديو للأبد، وأوقف مؤشره على محطة واحدة هي محطة السأم والبؤس.. كره وطلق.. واستراح؟؟!!

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة


تعليق واحد

  1. هزمت كل المقال بالجملة الاعتراضية (وأقصد كل الوطن العربي )
    ولم تحترم عقولنا. …فمن يستشهد بمثل هذا الشعر. ….لايشرحه. ……