الصادق الرزيقي

الذكرى المنسية!!


مرت أمس ذكرى الإنقاذ الوطني التي صارت يتيمة من سنوات عديدة لا يؤبه لها حتى أصحابها، وكأن الرحم التي ولدتها أنكرتها ونسيت أنها كانت بعض منها من أنسجتها ودمها ولحمها، تركوها على قارعة الطريق، وتركوا حلم التغيير والثورة التي كانت وعداً بتغيير وجه السودان وصياغة مجتمعه على هدى جديد ورؤية جامعة، ففي تاريخ الثورات وعمليات التغيير السياسي والاجتماعي منعطفات ومآزق ومنعرجات وتراجعات، لكن لم نجد على طول مجرى التاريخ الإنساني ثورة تنسى ميقات ميلادها ويوم أن قُطع حبلها السري وأين دفنت مشيمة ولادتها!!
> مرت إذن الذكرى أمس، وكأن صخب الأمس وأناشيده وحماساته الكبرى والصغرى، تتناثر في الطريق كريش طائر نافق، وعبثت الريح ببقية الخصلات غير الخضيبات البيض، وقد خطت تسع وعشرون سنة على مفرقي الثورة شيباً حزيناً، ورسمت أخاديد مبهمة على وجه امتلأ بالقروح والبثور من فعل الزمان الكؤود، لو أن أهل الإنقاذ يدرون ما لهذا اليوم من ثقل في الميزان لما تركوه وحيداً ضائعاً منفرداً في مهب النسيان، أو كالسيف وحده بين الأيام الراعشات، فهو اليوم الذي وهب عند بزوغه للقانطين اليائسين فرحهم المعربد، وللفقراء المعدمين بوابتهم للثراء، وللطامعين تخمتهم عند التهام السلطة، وهو الذي أهدى العيون بريقاً والثغور ابتساماً!!
> في مسيرة الثورات والتحولات السياسية، يتشبث المبدئيون الآيديولوجيون بشعاراتهم واختياراتهم الفكرية والسياسية وشارات النصر والاستحقاق الأثير، لا يخلعون عباءة الذكرى عند أول زقاق وعند قارعة الطريق، الذكرى هي جلدهم الذي لا ينسلخون عنه، بؤبؤ عينهم التي يرون بها نجمة في مدار بعيد ترمز للنصر والأمل الوارف، لا يحجبهم عنها شيء سوى الطريق الطويل وغباره اللولبي العتيد وهم سائرون، فالإنقاذ لم تكمل مهمتها بعد، فكيف تتجاهل موعد تكوين هويتها السياسية؟ ولو كانت قد أنجزت كل ما وعدت ثم ترجلت عن صهوات النار والعزائم، لقلنا إنها تعبت وأُرهقت وتريد أن ترتاح من مغالبة براكين التحديات وامتطاء الشعارات، لكن ومن سنوات ليست بالقليلة، جعلت الثلاثين من يونيو يوماً عابراً تحييه مرات ببيان خجول أو إشارة عابرة وهي تمعن في تعفيره بترابِ الذبول.
> ثورة أو سمها ما شئت، عبرت عبر فلواتها وزهت في فضائها وسمائها الآلاف من وجوه الشهداء، وسالت على جسدها الخشن الدماء الزكية وجرى الدمع السخين، وغنت الذراري في بيادرها، وأنشد وصدح في منائرها الحداة الهداة، كيف تنسى زفاف عرائسها وزفات ملائكتها الأطهار الصاعدين بأرواحهم إلى فياح الملكوت ..؟ أي عقل سياسي ذاك ركله الهدى حيناً ثم هداه للضلال فأهال التراب على الذكرى المنسية ومرقها في الوحل؟!
> ما لم تفهمه ماكينة السياسة التي ظلت تدور وتدور طوال تسعة وعشرين عاماً، أن إحياء الذكرى بوهجها وتلاطم موجها، هو جزء من الحفاظ على القناديل المضيئة حتى لا تنطفئ فتذهب الريح وتتوارى حبات الندى، فقد حافظت الثورات الكبرى مثل الثورة الصينية على ذكراها، وثورة يوليو المصرية رغم تغير الجلود والأنظمة ظلت القاهرة تتمسك بها، وكان القذافي مستمسكاً بكلتا يديه بعيد ثورته حتى مات عليها، وثورة الخميني بعد مضي تسعة وثلاثين عاماً عليها لم تخبُ نارها وظلت كنار المجوس لافحة، وكذا الثورة الكوبية رغم ذهاب (كاسترو أخوان) مازالت ميادين هافانا تلهث خلفها، وحتى جيراننا الثورتين الإثيوبية والإريترية مازالت عصفورتاهما تشقشقان وقد حلتا على فنن!!
> حزين يوم الإنقاذ لا بواكي له ولا زغاريد فيه، مثل رهو السحاب مر، كما تمر الأطياف والخواطر والأحلام والأسحار، متعجلة الخطى سريعة المشي، وممشى التاريخ العريض يخلو من صفير ونفير وأهازيج وأغنيات، كأن تلك الأحلام لم تولد بعد، ويا لها من مفارقة تلك القصيدة لمحمود درويش:
يقول مسافر في الباص
لا شيء يعجبني
لا الراديو ولا صحف الصباح
ولا القلاع على التلال
أريدُ أن أبكي
يقول السائق:
انتظر لحظة الوصول إلى المحطة
وابك وحدك ما أستطعت
تقول سيدة:
أنا أيضاً لا شيء يعجبني
دللت ابني على قبري
فأعجبه ونام ولم يودعني
يقول الجامعي:
ولا أنا لا شيء يعجبني
درست الأركويولوجيا
دون أن أجد الهوية في الحجارة
هل أنا حقاً أنا..؟!
يقول جنديٌ:
أنا أيضاً أنا لا شيء يعجبني
أُحاصر دائماً شبحاً يُحاصرُني
يقول السائق العصبي:
ها نحن اقتربنا من محطتنا الأخيرة
فاستعدوا للنزول
فيصرخون:
نريد ما بعد المحطة فانطلق
أما أنا فأقول:
انزلني هنا
أنا مثلهم لا شيء يعجبني
لكني تعبت من السفر!!

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة