فتاة عكاظ وانتشاء الليبراليين

أدعوكم قرائي الكرام إلى مائدة (إحسان الفقيه).. تلك الكاتبة الأردنية المتميّزة التي حفرت اسمها بين أعظم الكُتّاب العرب والمسلمين خاصة وأنها تتمتع بثقافة لا تُجارَى من حيث العمق، وبلغة رفيعة وبعلم غزير استطاعت أن تبز به التيار الليبرالي العلماني وتصدّه عن حمى الإسلام.

“يمكن لكل سعودي شاهد حادثة الفتاة التي عانقت المُغني على مسرح سوق عكاظ أن يقول مُبتهجاً: الآن خرجنا من مجتمع الملائكة والفرقة الناجية وتأكّدَتْ بشريتنا”.

تلك هي العبارة التي صدّر بها الكاتب السعودي الليبرالي “عبد الله بخيت” مقالته على صحيفة الرياض، تعليقًا على قيام فتاة سعودية باقتحام المسرح ومعانقة الفنان ماجد المهندس، والتعليق كما هو واضح يطفح بالمبادئ الليبرالية الدخيلة على مجتمعاتنا، ويُظهر انتشاء صاحبه بالحدث واعتباره مؤشراً على خروج المجتمع السعودي عن دائرة الخضوع لضوابط الشريعة.

ابتداءً، أود التنبيه على أن صنيع هذه الفتاة ليس مرآةً لسلوك المرأة السعودية، فهناك الكثير من السعوديات انتقدْنَها بشدة، ولئن كان المشهد يتكرر بحذافيره في كثير من البلدان العربية، إلا أن سياق التحولات الاجتماعية التي طرأت على المملكة يجعل الغيورين ينظرون إلى تلك الواقعة على أنها نتيجة سريعة لتلك التحوُّلات وأنها نذير انقلاب أخلاقي في المملكة.

لكنني في ذلك المقام لستُ معنيَّة بتناول هذه التحوُّلات، بقدر اهتمامي بتناول الليبراليين السعوديين لتلك الحادثة، ومنهم الكاتب عبد الله بخيت الذي أنكر سابقًا تحريم الخمر وسخر من الحجاب وسلّط قلمه على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (رحمها الله).

بخيت يعتبر الحدث انتصارًا لليبراليته، ويبتهج بما يراه خروجاً من المجتمع الملائكي والفرقة الناجية إلى التأكيد على بشرية المجتمع السعودي، وهو تعبير شديد الوضوح لا يحتاج إلى بصيرة نافذة لسبر أغواره، فلسان حاله يقول: خرجنا من إطار الحلال والحرام إلى إطار الحريات الشخصية الرحب، وودّعنا عهد هيمنة المُحتسبين وملاحقتهم إلى عهد إطلاق يد الأخطاء البشرية.

وإنا لنتساءل: هل التأكيد على بشرية المجتمع السعودي يستلزم مخالفة تعاليم الإسلام وقيم المجتمع السعودي الأصيلة؟!

هل المطلوب من الشعب السعودي أن يكسر الحواجز ويغرق في البهيمية حتى يُثبت لليبراليين بشريته؟

إن بشريّتنا قد بيّنها الله تعالى حين قال (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28]، وأكد عليها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُون)، فلسنا بحاجة إلى إشاعة وقبول المنكرات حتى نُثبت بشريّتنا!

الليبراليون حالهم كحال أكثر الشعراء الذين تجدهم في كل وادٍ يهيمون، وربما يُدرك القارئ شيئًا من تخبُّط الكاتب الليبرالي عبد الله بخيت الذي يُعد رمزًا ثقافياً في قومه أو بين الفئة التي ينتمي اليها، إذا عرف قيمة الثقافة لدى ذلك الكاتب، الذي قال في بعض مقالاته: “من عادتي إذا جلستُ أنتظر في مكان عام، مطار دولي مثلاً، لا أضيع وقتي بالهواجس أو القراءة إنما أُقيم مسابقة جمال فورية لكل النساء اللاتي يمررن أمامي”.

فتفَحُّصُ أجساد الفتيات أهم لديه من القراءة وإطلاق ملَكَة التأمل واغتنام الأوقات بما ينفع، أَمِثْلُ هذه الأقلام تُؤتَمن على ثقافة الناس ووعيهم؟!

ويمضي الكاتب في مقالة فتاة عكاظ مُكرسًا لتقَبُّل المنكرات في المجتمع السعودي فيقول: “ما حدث من الفتاة لم يكن بدعة أو خروجًا عن نواميس الطبيعة، ولن يؤدي إلى تفجُّر البراكين والزلازل وهدير السيول، ولن ننال عقابًا جماعيًا من الله على فعلتها”.

وكلامه هذا حديث من لا يُدرك – أو يتجاهل – وضعية السعودية في العالم الإسلامي، ففيها قِبلة المسلمين ومقدساتهم، وعلماؤها مرجعياتٌ علمية لكثير من أبناء المسلمين في المشارق والمغارب، ولا تُسَاوَى بغيرها في الخروج عن الآداب الإسلامية، فإذا كنا نستنكر مثل هذه السلوكيات في غير السعودية، فالأمر فيها أشد بهذه الاعتبارات.

ولئن كانت مثل هذه السلوكيات لا تستوجب العقاب الجماعي كما قال، فبعيدُ النظر يستشرف ما وراء الحدث وينظر إلى دلالاته وسياقه، ويخشى أن يكون بداية للتمرد على القيم الدينية والمجتمعية في ظل الاهتمام البالغ بالجانب الترفيهي.

“ما يحدث من تحوّل نقلة ثقافية كاملة تُعيد الحياة إلى الواقع والطبيعية، شكلت دعايات أهل التطرّف نوعاً من الفوبيا تجاهها” هكذا يقول بخيت، الذي يرى المراقص المختلطة والتوسُّع في بناء دور السينما، ومزاحمة المرأة الرجال في مشاهدة المصارعة الحرة والحفلات الغنائية، يرى في كل ذلك نقلة ثقافية، فهل ستتحدد الملامح الثقافية لشعبك بهذا؟ هل ستتشكل قوتك الناعمة التي تؤثر في ثقافات الشعوب الأخرى بهذه الإجراءات؟!

أيها الليبرالي لا تبْغِ فِراء الدُّب قبل صيده، وأنت لم تصطد هوية السعوديين بعد، إن وجدت عشرة يُهلِّلون لما هلَّلتَ له، فستجد مائة من السعوديين يُكشرون عن أنيابهم ويعضون على هويتهم بالنواجذ، حفظ الله السعودية وشرفاءها من كيد الكائدين وعبث المتآمرين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة

Exit mobile version