جعفر عباس

الحرمان من النوم جعلني نشيطا


لم يحدث قط أن نمت ولو لنصف ثانية بعد ترك فراشي صباحا منذ وصولي إلى لندن للعمل في بي بي سي، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، ليس لأنني – اسم الله عليّ – نشط ومحب للحركة، ولكن لأن طبيعة الحياة في لندن لا تسمح بالاقتراب من السرير إلا ليلا، والأغرب من كل هذا أنني كنت أعود أحيانا من العمل في أول المساء، وأجلس مع العائلة في الصالة للونسة أو مشاهدة برامج تلفزيونية دون أن »أغيِّر« ملابسي، أي أنني كنت أجلس معهم مرتديا نفس الثياب التي ذهبت بها إلى العمل، مع أن أهم شيء عندي- عادة- فور عودتي إلى البيت هو التخلص من البنطلون والحذاء، ولولا بقية من حياء لذهبت إلى العمل أو الزيارات العائلية حافيا، فما من اختراع يتعلق باللبس يضايقني أكثر من الكرافتة إلا الحذاء، وأجدها متعة لا تعادلها متعة أن أخلع الحذاء، ليس بنزعه عن القدم باستخدام اليد بل بأن »أنفضه« بقوة ليطير ومطرح ما يقع، يقع، ثم أتخلص من الجورب )الشراب( السخيف الذي – كلما لبسته أحسست بأنه جبيرة جبس. ولو كنت أجيد لف العمامة السودانية لما تركت بيتي لعمل أو لغيره إلا بالجلباب، تفاديا لارتداء البنطلون الذي يأتي بعد الحذاء في ترتيب قطع الهندام التي تسبب لي الضيق والاكتئاب.

عندما عملت بالتدريس في المرحلة المتوسطة/ الإعدادية، بعد أن هجرت كلية القانون وصار مقررا ان ألتحق بكلية الآداب في العام التالي، انتهت الحصة الدراسية ذات يوم، وكنت جالسا خلف طاولتي في حجرة الدراسة، وحركت قدميّ ولم أجد حذائي، وبعد هرج ومرج اكتشفت ان تلميذا صغير الحجم، حشر قدميه في حذائي، وظل جالسا وبراءة الأطفال في عينيه، وبعدها »توبة«.

والشاهد هو أن إيقاع الحياة السريع في لندن يطهر جسمك من كل جينات الكسل والدلع )الدراسة التي نشرتها مجلة لانسيت الطبية البريطانية في يونيو 2012 لم تضع السودانيين ولا ضمن ال25 الأوائل في قائمة الشعوب الكسلانة.. يا مفترين(.
وأذكر أنني وبعد ان فارقت لندن نهائيا ووصلت الدوحة ذات صباح صيفي، توجهت إلى عملي في اليوم التالي في شركة اتصالات قطر، وقضيت بضع ساعات في »التحيات« والترحاب، وعدت إلى البيت وتناولت الغداء –لأول مرة منذ عامين-في الثانية والنصف، ثم تمددت على سرير ممسكا بجريدة وخلال دقائق كنت »إخخخخخخ«. يعني رحت في نومة، لأن جيناتي العربيقية )العربية- الإفريقية( صارت نشطة، ولأن جسمي ظل منذ يوم مولدي مبرمجا على تناول الغداء بعد انتصاف النهار بقليل، ثم الاسترخاء، وهي أمور حرمتني منها ظروف العمل والعيش في لندن.

الشعب الأوربي الوحيد الذي يمارس نوم القيلولة هو الإسباني، وهو كما أشرت مرارا الأثر القاطع والحاسم الوحيد على ان العرب حكموا تلك البلاد لعدة قرون، ولحسن حظنا فإن الطب الحديث أثبت أن نوم القيلولة ولو لدقائق معدودة يؤدي إلى تحسن أداء وظائف أعضاء الجسم، وكعربيقي أصيل اعتاد تجاهل نصائح الأطباء، فقد توقفت منذ عدة سنوات عن نوم القيلولة، والاستعاضة عنه بالنوم المبكر ليلا، وحقيقة الأمر هي أنني لم أكن أحظى بنوم مريح حتى في ساعات الليل في لندن، فقد كنت مثل الذئب أنام بعين واحدة، وتلتقط أذني أي دوشة أو حركة فأنهض وأتفقد أركان البيت، لأن ما تقرأه في الصحف يجعلك تتوقع اقتحام اللصوص أو عصابات العنصريين لبيتك ليلا.. وأحيانا نهارا.
ولهذا فإنني منذ أن غادرت لندن، وأنا مدرك لحقيقة ان صدام الحضارات بيني وبينها انتهى بالتعادل السلبي، أنام دون التوجس من حدوث مكروه لي ولأفراد عائلتي بسبب اقتحام »فاعل شر« لبيتي، ويكون نومي عميقا لأنني لا أنام نهارا قط.

زاوية غائمة – جعفر عبــاس