جعفر عباس

وداعُ لندن .. ولا أسفًا عليها


فقدت عملي في تلفزيون بي بي سي العربي في لندن بعد أن أغلق أبوابه، واعتبرت زوجتي ذلك »هبة« من الله، وتلقيت عرض عمل من صحيفة الاتحاد في أبوظبي، ولكنني فضلت العودة إلى وظيفتي في شركة الاتصالات القطرية التي كانت آخر محطة عمل لي قبل الرحيل إلى لندن.
وهبطت طائرتنا في مطار الدوحة، في ذات نهار في يوليو، واستقبلتنا المدينة بحرارة تفوق الأربعين درجة على مقياس سيلسياس )في زماننا كانت الدرجات تقاس بالفهرنهايت والسنتيغريد، وفجأة اختفت الأخيرة بعد أن صار اسمها سيلسياس. كل هذا لأنه لا كلمة لنا في تحديد المعايير والمكاييل. وهكذا اختفى الرطل والأوقية، وقبل سنوات قليلة اجتمع علماء فلك في الغرب وقرروا خفض درجة بلوتو من كوكب إلى كويكب، وبداهة فإن هذا يتعارض حتى مع أكثر قوانين العمل تعسفا وتحاملا على العاملين، إذ لا يجوز خفض الدرجة من دون إخضاع الطرف الذي سينال الخفض لمجلس تأديب ومحاسبة، ولكن الفلكيين الغربيين بكل عجرفة قرروا ان لقب كوكب كبير وكثير على بلوتو، من دون ان يشرحوا لنا لماذا غضبوا عليه، بل لم نسمع بالأمر إلا من تسريبات صحفية، ولهذا ظلت كتبنا الأكاديمية تقول ان بلوتو أحد كواكب المجموعة الشمسية وأنه بالتالي سيم سيم وكتفا بكتف مع المريخ وزحل والمشتري والزهرة وغيرها، ثم غير العلماء الغربيون رأيهم وردوا اعتبار بلوتو(.

وهكذا عدنا من لندن إلى الدوحة في عز صيف عام 1996، ولكن حرَّها كان بردا وسلاما على قلوبنا التي كاد الصدأ يعلوها من برد لندن وكآبة مبانيها وقسوة العيش فيها. ولندن مدينة رائعة لك كعربي أو عربيقي مثلي، تستطيع ان تقضي فيها عطلات ممتعة أو أن تقيم فيها على نحو دائم، لكن بشرط أن تكون خالي طرف: لا عيال ولا دوشة، ولديك الحد الأدنى من مال يكفل لك العيش الكريم أو العيش والفول أو العيش واللحم )العيش في السودان ومصر هو رغيف الخبز بينما يعني في الخليج الأرز(. لندن مدينة قد تعيش فيها عشر سنوات متصلة ومع هذا هناك ما تخبئه لك لتدهشك به، ولو تابعت فقط فعاليات الجاليات العربية فيها لقضيت وقتا ممتعا ومثمرا، فهناك عرب يقيمون في المهاجر استفادوا من مناخات الحرية فيها، فنهلوا من ينابيع الثقافة المتنوعة، وصاروا أكثر وعيا بأهمية الاستعصام بثقافتهم، مع رفدها بما اكتسبوه من معارف جديدة، فتجدهم يشكلون الجمعيات وينظمون الندوات والمحاضرات والمعارض، وبالمقابل هناك تنابلة مكثوا في لندن وغيرها من العواصم الغربية فوق عشر سنوات وإذا أراد الواحد منهم الذهاب إلى طبيب أسنان يلجأ إلى الطريقة القرداحية )أي يستعين بصديق ليشرح للطبيب ما به من علة، مع ان التعامل مع طبيب الأسنان لا يحتاج إلى كلام، لأنه سيقوم بفتح فمك على كل حال(.

يحضرني هنا لغز طريف طرحه عليَّ أحدهم مؤخرا: دخل شخص أبكم، أي عاجز عن الكلام، متجرا لشراء فرشاة أسنان، فكيف شرح للبائع ما يريد؟.. بسيطة: حرك أصابعه فوق أسنانه تقليدا لحركة الفرشاة، ففهم البائع مقصده. طيب بعدها دخل رجل أعمى المتجر لشراء نظارة شمسية لأمه فكيف شرح للبائع ما يريد؟

وهناك من تعجبهم الحياة في لندن حتى وهم يعانون من شح المال، وهؤلاء في معظمهم مثل الكلب الذي عبر الحدود من سوريا إلى الأردن والتقاه في المنطقة الصحراوية كلب أردني جربان، لاحظ ان الكلب السوري ملظلظ أي ممتلئ الجسم عريض المنكعين شلولخ، فسأله عن طعامه في سوريا فقال الكلب السوري إن أصحابه يطعمونه الستيك والنقانق/السجق ولحم الدجاج، فما كان من الكلب الأردني إلا أن صاح فيه: مجنون أنت تسيب كل ها الخير وجاي في الصحراء، فرد عليه السوري: تعرف يا صاحبي.. الواحد فينا لازم ينبح على راحته بين الحين والآخر )بالنسبة إلى الأعمى الذي دخل المتجر لشراء نظارة لأمه فليس لديه مشكلة لأنه يستطيع ان يتكلم، وإذا كانت إجابتك غير ذلك، تعيش وتأخذ غيرها(.

زاوية غائمة – جعفر عبـاس


‫2 تعليقات

  1. يا كويا في بعض الناس تتلزز بقراءة مثل هذا النوع من الكتابات، وانا منهم نوعا ما، واقترح على ابو الجعافر ان يلملم طرائف حياته في كتاب ويمكن ان يجد من الناس ما يحبون كتاباته هذه.