الطاهر ساتي

انحراف!!


:: مع تجديد رفضه لاستيعاب أي كادر طبي يتعاطي السجائر والتمباك بالمشافي والمركز الصحية بولاية الخرطوم، قال بروفيسور مأمون حميدة وزير الصحة بالخرطوم، مخاطباً الحاضرين لحفل توقيع عقد العمل في مستشفى التوأم للأطفال، بالنص: (انحرف مستشفى جعفر بن عوف عن الطريق، وأصبح مركزاً صحياً للإسهال والطراش)، ثم اتهم أشخاصاً – لم يسمهم – بأنهم أرادوا شراً بالمستشفى لتحقيق مصالحهم الذاتية، وأن هؤلاء لا يستهدفونه فقط، بل السياسة الصحية أيضاً.
:: وعليه، بكل دول الدنيا، ما عدا السودان طبعاً، فالأصل في تقديم الخدمة العلاجية هو عنصرا (الزمن والتدرج).. أي عند إصابة المواطن بأي طارئ، فإن أولى محطات رحلة العلاج هي أقرب (مركز صحي)، وليس المستشفى المرجعي.. ولأن عنصر الزمن أهم عوامل العلاج، يتم توزيع المراكز الصحية في الأحياء بحيث يكون طبيب الأسرة قريباً للمواطن.. وبالمركز الصحي، قد يتم العلاج أو الإسعافات الأولية ثم التحويل إلى (مستشفى ثانوي).. وبالمستشفى الثانوي، قد يتم العلاج أو يتم تقييم الحالة ثم التحويل إلى المستشفى المرجعي.
:: تلك هي مراحل العلاج في العصر الحديث، وليس في العصر الحجري الذي يعيشه واقع الحال في بلادنا.. فالرهان دائماً على (الزمن والتدرّج).. مركز صحي ثم مستشفى ثانوي، وأخيراً مستشفى مرجعي.. ولكن في السودان – حيث كل شيء (بالقلبة) – رحلة العلاج أيضاً مقلوبة.. أي بمجرد التعرّض لحادث ما أو بمجرد الشعور بعرض من الأعراض، نشد الرحال إلى المشافي.. ولذلك ترى في المشافي أسواقاً، وما هي بأسواق ولكنها كتائب المرضى التي لم تمر بالمراكز الصحية.. ولو كانت خارطة البلد العلاجية كما الخارطة العلاجية ببلدان العالم، لما انحرف مستشفى جعفر بن عوف عن الطريق.
:: فالعجز المركزي عن وضع الخارطة العلاجية الصحية المتفق عليها مهنياً، هو الذي يأتي بالأطفال المصابين بالإسهال والطراش من كل ولايات السودان إلى مستشفى جعفر بن عوف.. وناهيكم عن ولايات السودان، بل حتى في عاصمة البلد، فالمركز الصحية بالأحياء – إن وُجدت – فهي مجرد جُدران بلا كوادر أو كوادر إن لم تزدك مرضاً فهي لا تُعالجك ولا تُسعفك.. بالمركز الصحي، يجب أن يكون – مع كادر التمريض – طبيب الأُسرة، وهذا تخصص (قائم بذاته)، وغير موجود في السودان.. ثم كل عدة وأجهزة الرعاية والإسعافات الأولية.
:: وقبل كل هذا يجب أن يجمع المركز الملفات الصحية لمرضى الحي أو القرية، بحيث يكون لكل فرد ملف صحي إلكتروني.. وكل هذا غير موجود في الجدران المسماة بالمراكز الصحية بالخرطوم وكل الولايات، هذا إن وُجدت المراكز الصحية في حد ذاتها.. ولهذا يهرول الآباء والأمهات بالأطفال المصابين – بشوية إسهال وطراش – إلى جعفر بن عوف وغيره من المشافي المرجعية بالخرطوم وكل عواصم الولايات.. وعليه، فإن انحراف مستشفى جعفر بن عوف مرده أن الهرم العلاجي في بلادنا (منحرف)، وتعديل هذا الهرم بحاجة إلى إرادة سياسية تضع صحة الإنسان في قائمة الأولويات، ثم إرادة إدارية غير متوفرة، لا بالولايات ولا بالخرطوم.
صحيفة السودان