تحقيقات وتقارير

العنف اللفظي (الردم) على وسائل التواصل الاجتماعي.. حين تصبح الكلمة نصلاً قاتلاً.. أو (سبباً للشهرة)


(1)

مخاوف عدة انتابت (م. ت) وهي تفكر بنشر مشكلتها على أحد قروبات التواصل الاجتماعي المعنية بذلك، قبل أن تعدل عن فكرتها بسبب هواجسها من العنف اللفظي أو (الردم) الذي سيواجهها، سيما أن كثيراً من الإجابات الشافية التي ينتظرها أصحاب الاستشارات تضيع وسط عبارات الردم والعنف الذي يواجهه الأعضاء، بسبب العبارات الجارحة والخارجة عن سياقها، قبل أن تطلق (م) بداخلها عدداً من التساؤلات حول استشراء ظاهرة (الردم) خاصة على (فيسبوك) وهي تتابع (ردم) صاحبات الاستشارة بـ(الطريقة الصاح) حتى صارت عبارة (بدون ردم لو سمحتو) خاتمة وسمة لكل الاستشارات.

(2)

لا تقتصر ظاهرة العنف اللفظي على قروبات الاستشارات الشخصية والمشاكل فحسب، بل تعدته إلى كل القروبات وعلى صعيد كل المنشورات الأخرى، وحسب اختصاصيي النفس فإن العنف اللفظي يترك آثاراً وأضراراً نفسية أكبر من الأضرار الناجمة عن العنف الجسدي، حيث إن الأشخاص الذين تعرضوا لأي نوع من أنواع الإهانة أو السخرية بالاكتئاب والأمراض النفسية.
وقد بينت الأبحاث الحديثة أن العنف اللفظي يترك آثاراً أكبر بكثير مما كان يعتقد سابقاً، فهو يؤدي إلى ضرر دائم في تركيب ونمو وتطور الدماغ البشري، فالعقل البشري يختلف عن غيره في أنه يتكون وينمو ويتطور بعد الولادة، أما تكوين الشخصية والقدرات الإدراكية والمهارات، فإنها تأخذ عقوداً للتطور، ووفقاً لأهل علم الاجتماع فإن العنف الجسدي تكون انعكاساته على الفرد والمحيط الاجتماعي، بحيث يتناسى البعض نوعاً أكثر إيلاماً يؤذي الاثنين ويصعب التعافي منه وهو العنف المعنوي والتجريح، الذي قد يبدو ظاهره عفوياً انفعالياً لكن باطنه متعمد وعنيف لأنه يمس كيان وشخصية وكرامة الإنسان ويجرده من الثقة بالنفس.

(3)

انتشار ظاهرة (الردم) جعلت الكثيرين يتعاملون مع (فيسبوك) كوسيلة للتواصل الاجتماعي ومعرفة أخبار الآخرين، وما يدور من أحداث عالمية دون الخوض في استشارات وتساؤلات كما هي العادة، أو نشر بوستات، لنجد بالمقابل، وعلى الرغم من بشاعة (الردم)، أن البعض يدمن تصفح هذه القروبات خاصة على (فيسبوك) لـ(يتفرج) على عبارات التجريح والإساءات، والبعض الآخر في حالة احتدام شجار (يتاقي) صديقه ليتفرجا معاً.

الملاحظ والغريب في الأمر أن العنف اللفظي المنتشر بكثافة جعل الكثيرين يبحثون عن الشهرة من خلاله ومن خلال نشر وبث منشورات وفيديوهات غريبة، خلفت شخصيات إسفيرية كثيرة مثيرة للجدل مثل (جغارم)، (عمر عطور) وغيرهم من قائمة تلك الشخصيات المثيرة للجدل إسفيرياً، التي تصدرت أعلى قائمة الردم والإساءة والتجريح دون هوادة، ولم يتوقف الأمر عند هؤلاء، بل تعداه إلى الشخصيات المتعلمة والمنتمين إلى الطبقات المثقفة، الذين بحثوا عن الشهرة عبر مقالات ومنشورات تدعو إلى استخدام العنف اللفظي بشدة.
أخيراً.. ووفقاً لبعض المصادر الالكترونية فإنه لا مفر من الإقرار بأن وسائل التواصل والإنترنت عموماً تشجع على ممارسة أفعال الكراهية، خاصة أنها تؤمّن مقداراً لا بأس به من السرية، كما أنها تؤمّن منصة خالية من المواجهة المباشرة مع الطرف الآخر، ما يمكّن أي شخص من قول ما يريد من دون أن يضطر إلى تحمل هذه العواقب، إلا أن الأكيد أن هذه المنصات لا تساهم في إظهار “الشر” البشري، بل يمكن القول إنها تساعد على نشره فقط.

وأبانت دراسة أن ظاهرة العنف اللفظي أصبحت متفشية في المجتمع السوداني، وهي تبرز بشكل واضح في أوساط الشباب بمختلف شرائحه مع شيء من التفاوت. وإذا كان لهذه الظاهرة جذورها التاريخية فإنّ أهم أسباب ودوافع انتشارها في الفترة الحالية وبشكل يبعث على القلق ويستدعي التدخل، جملة التحوّلات الكثيفة والسريعة التي عرفها المجتمع السوداني الحديث والمعاصر، فهي ترتبط بأسباب ثقافية واجتماعية وحضارية ما انفكت تطبع الشخصيّة القاعدية السودانية فتجعل من العنف اللفظي خاصية من خصائصها.
وبيّنت الدراسة بعض الأبعاد الخطيرة للظاهرة، كما بيّنت أيضاً أن مثل هذه الظواهر تمثل بالمقابل علامة حركية وحيوية ونشاط في بنية المجتمع، ذلك أن التحليل المتأني للظاهرة يفضي أحياناً إلى اعتبارها مظهراً من مظاهر حركية المجتمع، وعلاقة تفاعل وتعبير ليست في كل الأحيان تحمل مخاطر التدمير والإيذان بالتخريب.

الخرطوم _ هبة محمود سعيد
صحيفة المجهر السياسي.