منوعات

التحرش يجتاح الشركات.. نساء يحكين تجاربهن


على مدار العامين الأخيرين، انطلاقا من العام 2017 تحديدا، لا صوت يعلو فوق صوت “مكافحة التحرش” حول العالم. ممثلون ومديرون ومؤسسو شركات وإعلاميون وسياسيون وشخصيات عامة في كافة المجالات تعرّضوا جميعا إلى اتهامات بالتحرش الجنسي، وهي الاتهامات التي لم يستطيعوا نفيها في معظم الحالات، مما قادت معظمهم إلى الاستقالة تحت وطأة الفضيحة، تاركين وراءهم تراثا مشوّها من الإنجازات. (1)

وعلى الرغم من أن حملات مكافحة التحرّش حول العالم تصل إلى ذروتها الآن، وما زال يتداعى بسببها رموز عالمية في مختلف القطاعات، فإن الأمر في قطاعات الشركات والأعمال تحديدا يكون أكبر وطأة ولا يتوقف فقط على الفضيحة التي تصيب سمعة هذه الشركات، وإنما يمتد أيضا إلى نزيف حاد من الأموال بسبب التعويضات الهائلة التي تُجبر الشركات على دفعها لضحايا التحرّش، وبالتأكيد تكون هذه التعويضات مليئة بالأصفار. (2، 3)

في العام 1999، ظهرت في أروقة شركة السيارات الأميـركية الضخمة “كرايسلر” ما يبدو أنها ضجّة تختلف عن الضجيج الذي يصدر من المصانع الهادرة التي تصنع السيارات، وبالقطع ليست ضجّة تجلب المال عبر إنتاج سيارة جديدة، بل هي من النوع الآخر الذي يستنزف المال والسمعة معا. ليندا غيلبـرت، إحدى العاملات في الشركة أعلنت أنها يتم التحرّش بها جنسيا في الشركة وأعلنت لجوءها إلى القضاء.

في تلك الفترة من أواخر التسعينيات، ضجّت وسائل الإعلام بخبر التحرّش الذي تزعمه العاملة في مصنع كرايسلر جيفرسون نورث أسمبلي (Chrylser’s Jefferson North assembly) الكائن في مدينة ديتـرويت بولاية ميتشغان، وهو واحد من أكبر مصانع الشركة المسؤولة عن إنتاج السيارات الجيب. زعمت ليندا -التي كانت أول فتاة عاملة في هذا المصنع منذ العام 1992- أنها تعاني التحرّش من زملائها الذين اعتادوا مناداتها بأسماء تحمل تلميحات جنسية، فضلا عن قيامهم باستخدام نكات فجّة، ووضع صور إباحيـة غير لائقة عند أدواتها الخاصة بشكل فج لخدش حيائها.

بعد سنوات من دراسة القضية، أصدرت المحكمـة أمرا قضائيا يقتضي إلزام شركة كرايسلر بدفع غرامة تعويض هائلة بقيمة 21 مليون دولار، وهو ما اعتُبر أكبر غرامة تُفرض على إحدى الشركات لتعويض حالة تحرش جنسي فردية في ذلك الوقت. ولكن، وبعد مرور عدة سنوات، قررت محكمة ميتشغان الدستـورية إسقاط دعوى التعويض بهذا المبلغ في العام 2004، بعد أن وجدت المحكمـة أن الحُكم الصادر كان مُبالغا فيه، وأنه اتُّخِذ “تحت مشاعر التحيّز والعاطفة”. (4، 5)

في العام 2011، ظهر اسم آشلي ألفورد في الإعلام الأميـركي بشكل كبير. آشلي التي كانت تعمل موظفة في سلسلة متاجر آرونز (Aaron’s) المتخصصة في بيع وتأجير الأثاث والإلكترونيات -وهي واحدة من المتاجر العريقة في هذا المجال في أميركا منذ تأسيسها في منتصف الخمسينيات-، تقدمت بدعوى تعرّضها للتحرّش عدة مرات في المتجر الذي تعمل فيه بالقرب من سان لويس بولاية ميزوري الأميـركية.

الموظفـة قالت إنها تعرّضت لكافة أشكال التحرّش غير المباشر والمباشر من طرف المدير العام للمتجر على مدار عام كامل، من خلال عدة مواقف شديدة الحرج تضمّنت قيامه بالتعرّض لها بأشكال غير لائقة ومُخجلة. لاحقا، قام المدير بالاعتداء الجنسي عليها بشكل كامل ضد رغبتها في العام 2006، وهو ما جعلها تتوجه برفع الدعوى القضائية ضده، كاشفة عن مواقف وأحداث مُخجلـة تعرّضت لها طوال هذه الفترة.

إلى جانب طرد المدير من وظيفته وتعرّضه للسجن، أصدرت المحكمة قرارا بتعويض آشلي ألفورد بمبلغ هائل قُدّر في البداية بـ 95 مليون دولار، تم تخفيضه لاحقا إلى 40 مليون دولار تُلزم شركة متاجر آرونز بدفعها لها، في واحدة من أكثر قضايا التحرّش الجنسي في الشركات شهــرة في مطلع العقد الحالي، وأكثرها تكلفة أيضا. اعتُبرت هذه القضية من أكثر قضايا التحرش الجنسي تداولا في وسائل الإعلام وقتئذ بشكل مكثّف بسبب تفاصيلها المقززة من ناحية، والتعويض الهائل الذي حصلت عليه آشلي من ناحية أخرى. (6)

في نهاية التسعينيات، تقدّمت مجموعة كبيرة يبلغ عددها نحو 350 موظفة وعاملة في شركة ميتسوبيشي اليابانية، واللواتي يعملن في أحد مصانع الشركة بولاية إلينـوي الأميـركية بشكـاوى قضائية يبلغن فيها أنهنّ قد تعرّضن لعدد من أشكال التحرّش الجنسي أثناء العمل، سواء بشكل لفظي أو بشكل جسدي، وأنهنّ عانين من تعرّضهن لمقولات ونكات وسلوكيات مُخجلة بشكل منهجي.

الشكـاوى ذكـرت أيضا أن العديد منهنّ تقدّمن بالاستقالة تحت وطأة بيئة العمـل المسيئة لهنّ، كما تمّ إيقاف عدد منهنّ من الحصول على الترقيـات بسبب رفضهن الانصـياع للسلوكيات الجنسية التي فُرضت عليهن خلال فترة العمل، وهو ما أدّى إلى تعطيل مسيرتهنّ الوظيفية في الشركة.

في العام 1998، وافقت إدارة شركة ميتسـوبيشي على دفع مبلغ 34 مليون دولار للعاملات والموظفات اللاتي ثبت تعرّضهن إلى تحرش جنسي، فضلا عن دفع عدة ملايين أخرى لحالات خاصة منهنّ تعرّضن لمستويات أعلى من التحرش التي استلزمت تعويضات أكبر. في الوقت نفسه، قامت ميتسوبيشي بتشديد سياساتها بخصوص الانضباط في بيئات الأعمال التابعة لها، وإطلاق حملات لنشر منع التحرّش الجنسي، كما أطلقت سياسة صارمة في عدم التسامح بأي شكل من الأشكال في هذه النوعيـة من القضايا. (7، 8)

ذكـرت آني كوبوريان أنها تعرّضت للتحرش بواسطة أحد الجراحين الذي اعتاد أن يبدأ يومه صباحا بتحيّتها بألفاظ خادشة لحيائها ولمس أجزاء من جسدها من باب الدعابة

ربما تُعد هذه القضية تحديدا واحدة من أشهر قضايا التحرش الجنسي في الشركات على الإطلاق، والسبب لا يعود فقط إلى تفاصيلها الصادمة وإنما أيضا إلى المبلغ الهائل الذي دفعته الشركة لتعويض الضحية بأمر إلزامي من القضاء الذي نظر في القضية، وأصدر الحكم في العام 2012.

آني كوبوريان (Ani Chopourian) تخرّجت في كلية الطب جامعة ييل، وحصلت على رخصة العمل كمساعدة طبيب في عدة مستشفيات، إلى أن تم تعيينها في العام 2006 في مستشفى هيلث كير ويست الكاثوليكية (Catholic Healthcare west) والتي عملت فيها على مدار عامين تقريبا. خلال هذين العامين، تقدمت الطبيبة بعدد كبير من الشكـاوى لإدارة المستشفى بخصوص سوء المعاملة التي تلقاها سواء على المستوى المهني بتعطيل وجباتها الغذائية وتحميلها أعباء هائلة، فضلا عن تعرّضها عدة مرات للتحرش الجنسي.

لاحقا، ذكـرت آني كوبوريان أنها تعرّضت للتحرش بواسطة أحد الجراحين الذي اعتاد أن يبدأ يومه صباحا بتحيّتها بألفاظ خادشة لحيائها ولمس أجزاء من جسدها من باب الدعابة، على الرغم من اعتراضها عدة مرات. كما ذكرت أيضا أن عددا من الأطباء طالبوها بشكل مستمر برغبتهم في معاشرتها جسديا بشكل فج، ووصل الأمر بأحدهم أن غرس في جسدها إبرة ناعتا إياها بوصف: الحسناء المثيرة الغبية.

تقدمت الطبيبة بأكثر من 18 شكوى إدارية، فضلا عن أنها كانت تخبر مديرها المسؤول المباشر بما تعانيه في العمل، وبما يراه هو شخصيا، فكان يكتفي بالضحك أحيانا وتجاهل طلباتها في معظم الوقت، ثم كانت المفاجأة -عندما كثرت شكـاواها المقدمة للإدارة- أنها طُردت من العمل في العام 2008، خصوصا عندما بدأت برفع الأمر كله إلى القضاء. في العام 2012، صدر حكم المحكمة بتعويض آني كوبوريان بمبلغ ضخم قُدّر بـ 168 مليون دولار، وهو ما يُعتبر واحدا من أكبر مبالغ التعويض التي شهدتها المحاكم الأميـركية والعالمية بخصوص قضايا التحرّش الجنسي. (9، 10، 11)

أصدرت المحكمة قرارا يلزم مؤسسة “UBS” بدفع تعويض للموظفة كارلا إنغراهام قدره 10,6 مليون دولار بعد أن قررت المحكمة أنها عانت من التحرش الجنسي

كارلا إنغراهام كانت تعمل موظفة مسؤولة عن خدمة العمـلاء في مؤسسة “UBS” المالية السويسرية العملاقة بفرعها في مدينة كانساس الأميـركية بولاية ميزوري. على مدار سنوات من عملها في المؤسسة الذي بدأته في العام 2003، تعرضت كارلا لمستوى واسع من التحرشات اللفظيـة من زملائها في العمـل، ارتقت في بعض الأحيان إلى تحرشات جسدية.

ما بين البذاءات التي تسمعها، والتعليقات الفجّة بخصوص مظهـرها والتلميحات الجنسية، وصل الأمر إلى نصيحة أحد مديريها لها بأن تقوم بتقديم جسدها لأحد العملاء المهمين في الشركة، إلى جانب الاستمرار المنهجي في توجيه أسئلة خاصة ومحرجة. قررت إنغراهام تقديم دعوات قضائية تجاه هذه المضايقات، وهو الأمر الذي جعل الشركة تقوم بطردها في العام 2009.

في العام 2011، أصدرت المحكمة قرارا يلزم مؤسسة “UBS” بدفع تعويض للموظفة كارلا إنغراهام قدره 10,6 مليون دولار بعد أن قررت المحكمة أنها عانت من التحرش الجنسي، وأن شركة “UBS” تواطأت معها عندما اتخذت موقفا معاديا لها بفصلها على الرغم من حقها في تقديم شكوى قضائية. (12، 13)

في العام 2002، تحدثت الصحافة العالمية بخصوص واحدة من أغرب قضايا التحرّش الجنسي في بيئات العمل، عندما تقدمت ست عاملات وموظفات في متاجر رالف للبقالة والخضـراوات (Ralph’s Grocery Store) بدعوى قضائية يتهمن فيها مدير أحد المتاجر بإرهابهنّ لمدة عام كامل، والتحرش الجسدي بهنّ، والقيام بممارسات عجيبة مثل إلقاء الأشياء عليهنّ من مسافة بعيدة، الأمر الذي تسبب بإصابتهنّ عدة مرات.

الفتيات قلن إن المدير كان يقوم بإلقاء أدوات ثقيلة عليهن، وأيضا هواتف وأجهزة وخضراوات، فضلا عن التحرش الجسدي بهنّ. وعندما قدّمن شكوى إلى إدارة المتاجر بهذه الوقائع، لم تقدم الشركة تحقيقا جادا وحاولت تغطية كل هذه الأحداث بخصوص المدير، باعتباره كان مديرا جيدا في إدارة المبيعات، ولم ترد الشركة أن تتخلى عنه أو إبعاده بناء على هذه الشكـاوى.

لاحقا، صدر حكم قضائي يُلزم الشركة بدفع غرامة تعويضية قدرها 30 مليون دولار للعاملات الستّ اللواتي قدمن الشكـوى، إلا أنه لاحقا خُفّف الحكم بشكل كبير من ثلاثين مليونا إلى غرامة قدرها مليونا ونصف المليون فقط، بسبب ما رأته المحكمة مبالغات كبيرة. (14، 15، 16)

في النهاية، يستحيل حصر كافة وقائع التحرّش الجنسي في الشركات العالمية، خصوصا مع الحملة الضخمة التي شهدها العالم لمكافحة التحرّش مؤخرا والتي كشفت النقاب عن وقائع طالت العديد من الشركات العالمية، بما فيها العديد من المؤسسات العربية. ومع ذلك، يمكن القول إن الجانب المضيء من هذه الحملة هي أنها دفعت معظم الشركات إلى تشديد إجراءاتها لمنع التحرّش في بيئات الأعمال، فضلا عن تراجع الكثيرين من المتحرّشين عن إقدامهم على مثل هذه الأفعال خوفا من الفضيحة.

الجزيرة نت