تحقيقات وتقارير

الخداعُ بوجوهٍ عِدَّة.. من حفيد غُردون إلى سارة رحمة


ربما من السهل اختلاق شخصيات لا صلة لها بالواقع ليلتف الناس حولها على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي هذا السياق برزت شخصية سارة رحمة التي اختَلَقَها الفنان علاء الدين سنهوري لسبع سنواتٍ باعترافه.. وعلى الرغم من الفارق الكبير بين العالمين الافتراضي والحقيقي، إلا أن الأخير يحكي عن شخصيات غير حقيقة استطاعت خداع الخرطوم. فعلى مدى أعوامٍ متفرّقة حطَّت على أرض السودان وجوهٌ لم تكن سحنتها فقط جواز سفرٍ، لتنطلي قصص هذه الشخصيات وحكاياتها على رموزٍ عديدة، بعضهم استُلهِم من تاريخ الخرطوم حكايَاتَه؛ فكان الطبيب الأمريكي كريستوفر غردون، وآخر عبر من بوابة السياسية وهو السيناتور الأمريكي سوني لي الذي التقى ببعض المسؤولين السودانيين، ومن بوابة الرياضة والسياسة كان “قميص ميسي”، وإن تعددت الأبواب والمداخل إلا أنها حملت طابعًا بعنوان واحد ألا وهو “الخديعة”.

السؤال الذي يظل مطروحًا بلا إجابات شافية هو عن الهدف وراء خلق تلك الشخصيات، وإن كانت التأويلات مَضَت في حالة سنهوري لصالح مشروعه الفني وأخرى أن هناك جهاتٍ ما وراءه وأسراراً قُبرت وراء الحسابات الوهمية التي أغلقها.

أما حنظلة “محمد” فهي شخصيةٌ افتراضية نالت حظها من التداول سابقًا، حيثُ دَوَّن على صفحته الشخصية بـ(فيسبوك) أنهُ مصاب بالسرطان وسيجري عملية جراحية بالقاهرة، ثم نشرت إحداهن مدعيةً أنها خطيبتهُ خبر وفاته ووصيتهُ بإنشاء مشروع خيري لتتوالى التبرعات بالأموال لصالح المشروع، ثم يتضح بعد وقتٍ عدم وجود هذه الشخصية على أرض الواقع.
فإن كان من السهل التغرير بالآخر على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد يبدو غريبًا أن ينجح الوقوع في ذات الفخ على أرض الواقع، مما يفتح باب التساؤل، ليس إزاء الشخصيات المُختلَقَة وصانعيها، بل لمن يصدقون ذلك.

حفيد غردون

على الرغم من اتكاء السودان على تاريخٍ وحضارةٍ تقف شواهدها دلالة على ذلك، لكنها أضحت في وقتٍ ما قبلةً للاحتيال ولا شيء يُمهِّد الطريق لذلك سوى كونك أجنبي؛ فلا حاجة بعد ذلك للتدقيق في التاريخ أو ما يحملهُ الشخص من مستندات، كان هذا وجه الشبه بين قصصٍ كثيرة اختارت الخرطوم محطةً لها لتعود بعدها لأراضيها، لتترك خلفها الكثير من الدهشة وبعض علامات التعجب بلا انتهاء، إحدى هذه القصص كان بطلها طبيبٌ أمريكي زار السودان مع ذكرى فتح الخرطوم في السادس والعشرين من يناير 2014م، وهو كريستوفر غردون، احتفت به بعض الصحف وأجرت معهُ حوارات، تم تعريفهُ على أنهُ حفيد غردون باشا؛ درس الطب في أمريكا وتخصص في الجراحة العامة، ثم تخصص في جراحة التجميل ومن ثم التشوهات الخلقية، يعمل في مستشفى “سنسايتي” بمقاطعة أوهايو الأمريكية، جاء إلى السودان بدعوة من جمعية الأطباء السودانيين الأمريكيين، على حد قوله، التقى بالإمام الصادق المهدي، وقال إنهُ سيعمل على تصحيح المعلومات الخاطئة عن السودان للغرب، ما كان مثيرًا للدهشة وقتها أن التاريخ يؤكد على أنهُ لا حفيد لغردون، لجهة أنهُ لم يتزوج وليس له ابن أو ابنة، كما أكد السفير البريطاني الأسبق د. بيتر تيبر أنهُ لا حفيد لغردون، وحول أسباب ذلك الادعاء عَلَّق السفير في حوار نُشر بصحيفة السوداني: “هنالك بعضُ الأشياء الغامضة في الحياة”.

لقاء مسؤولين

إن كان يبدو من السهل انطلاء بعض القصص المنسوجة بتاريخٍ أو بدونه على البعض، فكيف تنطلي على مؤسساتٍ في الدولة؟ ففي فبراير من العام 2014م زار سيناتور أمريكي السودان وُصف بالمزيف وهو “سوني لي”، والتقى وقتها بمساعد الرئيس بروفيسور إبراهيم غندور، ووزير الخارجية علي كرتي، ووزير النفط مكاوي محمد عوض، الرجل تم التعريف به على أنهُ رئيس وفد الكونغرس الأمريكي الزائر للسودان، ليتبين فيما بعد أنهُ لا وجود لسيناتور أمريكي بهذا الاسم في مجلس الشيوخ عقب الشك في التصريحات التي أطلقها برغبته بالاستثمار في السودان، وهو ما يُعتبر مخالفة وفقًا للعقوبات الأمريكية المفروضة على السودان وقتها. وزارة الخارجية حَمَّلت البرلمان مسؤولية زيارة الرجل وتقديمه للمسؤولين على أنهُ سيناتور.

قصةٌ أخرى أطاحت في وقتها بمدير إدارة الإعلام بالقصر الجمهوري أبي عز الدين، ففي أغسطس من العام 2016م زارت سيدة أسمها إليسا بلاسكو تعمل بقسم العلاقات الخارجية بإحدى الشركات التي تتخذ من لندن مقرًا لها، السيدة بعد ترتيب لقاء لها زارت القصر الرئاسي مقدمةً قميصاً أهداه اللاعب الأرجنتيني ميسي للرئيس، وهو ما تم نفيهُ لاحقًا.
أبطال وضحايا
هنا قصصٌ أخرى يضع أبطالها رِجلاً فوق أخرى بعد أن عادوا إلى بلدانهم محمّلين بالأموال، يسرد الكاتب الصحفي يوسف الشنبلي بعضاً منها لـ(السوداني) عن زيارة أحد الألمان للسودان في الستينات محتالًا على البعض ومنهم صحفي، حيثُ طلب منهم تكوين فرقة للفنون الشعبية، راقصين وممثلين، وعقب أداء الفرقة لبعض العروض أخبرهم أنهُ سيقوم بالحجز في مسارح 30 ولاية أمريكية لتؤدي الفرقة عليها، وأخبرهم بالتكلفة المالية وأغراهم بأنهُ سيقوم بتحويل الأرباح لهم، وعقب جمع المال لهُ ليحجز بها في المسارح الأمريكية اختفى بين ليلةٍ وضحاها.
وآخر حطَّ برحاله في السودان منصبًا نفسهُ ملكًا أمام شارع البرلمان القديم، بيد أن الشنبلي أشار إلى أن الناس تعاملت معهُ على أنهُ معتوه.

انقطاع أجيال

إن كان السفير البريطاني بيتر علق على ادعاء حفيد غردون المزعوم بقوله إن هنالك “بعضُ الأشياء الغامضة في الحياة”، فما الذي يجعل الخرطوم فريسةً سهلة لهؤلاء..؟ الكاتب
الصحفي محمد عبد السيد يرى أن الإشكالية الأساسية في قضية النصب والاحتيال التي تتم على نطاق واسع وجود أطراف مسؤولة تُروِّج لهذه الشخصيات وهي بحد ذاتها مخدوعة وتفتقر للخلفيات الإدارية اللازمة التي تساعدها على التفريق بين ما هو مزيف وحقيقي، واصفًا ذلك في حديثه لـ(السوداني) أمس بأنهُ “شُغُل سمسرة”، أطراف تقوم بالتسويق لهذه الأشكال المزيفة وعلى مستوى الرئاسة وتهافت عدد من المسؤولين للقاء هذه الشخصيات داعيًا للتمحيص في مثل هذه المسائل ومستوى لقاءات المسؤولين، معتبرًا أنها محاولة إيهام الآخرين أنهُ يقوم بعمله ويلتقي بشخصيات عليا واصفًا لقاء آخرين من خارج البلاد وبصفات مختلفة بنوعٍ من الغفلة.
وحول الأسباب فيعزوها عبد السيد إلى نقص الثقافة والخبرات والاطلاع، مشيرًا إلى أن عدداً كبيراً من المسؤولين هم نتاج التمكين وبعضهم لم تسمح لهم تنظيماتهم بالعمل في الخدمة العامة، لافتًا إلى أن الذي يعمل في الخدمة العامة يعرف المستوى الذي يجب أن يلتقيه؛ فالمسؤول القابع في وزارة الاستثمار أو التجارة لا يلتقي بمن ينبغي أن يكون لقاءهم بالدبلوماسيين أو الرياضيين، مشيرًا إلى انقطاع التواصل بين الأجيال.

الخرطوم: إيمان كمال الدين
صحيفة السوداني.