رأي ومقالات

ضياء الدين بلال: على كرَّاس جماع (قابلني)!


مدخل: كنتُ أودُّ أن أردَّ مُعلِّقاً على الأخ الأكبر الطيب مصطفى، وهو يكتب ليومين، عن حلقة التلفزيون الألماني (شباب توك)، ويتعرَّض لي بحدَّة وتجنٍّ، ولا أقول يتحرَّش بي.
كلمة التحرُّش في السياسة، استمعتُ إليها أوَّل مرَّة من الراحل الأستاذ أحمد سليمان المحامي. فاجأني بها الشيخ الأم درماني حين مساء، عندما سألتُه في حوارٍ عن علاقته بالسيِّد الصادق المهدي، فقال: (هذه ليست أوَّل مرة يَتَحَرَّش بي الصادق المهدي.. فقد تَحَرَّشَ كثيراً وكنتُ لا أردُّ عليه).
سأعود إلى الطيب مصطفى غداً بإذن الله، بعيداً عن التحرُّش وقريباً من الافتراء!

-1-
الآن، لا صوت يعلو فوق صوت أنين مرضى حمى (الشيكونغونيا)، ولا طنين الناموس.
أكثرُ نقدٍ كُنَّا نُردِّدُه في حقِّ الحكومة السَّابقة:
أنها حكومةٌ مُترهِّلة، بطيئة الحركة، قليلة الإنجاز، ضعيفة الإحساس بواقع الناس ومُعاناتهم.
ظللنا نكتب أن مُشكلة غالب أجهزة الحكومة، ضعف الفاعلية وبطء اتخاذ القرار، والتَّراخي في مُعالجة المُشكلات، قبل أن تتحوَّل إلى أزمات، واحتواء الأزمات قبل أن تُصبح كوارث.
حسناً فعل رئيس الوزراء معتز موسى، وهو يجعل أوَّل زيارةٍ له خارج العاصمة، إلى كسلا.
وخيراً فعل، حينما وضع حدَّاً للأكاذيب والادِّعاءات التجميلية الزَّائفة، حينما قال بعد اطِّلاعه المُباشر على حقيقة الأوضاع في الواقع لا في التقارير: (كسلا تمرُّ بتحدٍّ صحيٍّ كبيرٍ.. كُلُّ إمكانيات البلاد تحت طلب حكومة كسلا، حتى تنجلي أزمة الحُمَّى).
-2-
بكُلِّ تأكيد، سيكون لزيارة رئيس الوزراء إلى كسلا، الأثر الإيجابي لدى مُواطنيها، وعلى كُلِّ أهل السودان القلقين على عروس الشرق.
كسلا القاش وتوتيل والطير الخداري ونعاس الخدار والحلنقي وكجراي.
كسلا توفيق صالح جبريل.. حديقة العشاق (الوريفة الشاربة من الطِّيبة ديمه).
كانت أجملُ الأشعار تُزفُّ إلينا من كسلا، والآن أسوأ الأخبار تأتينا من هناك!
الفراشات في مُقابل بعوض الأيديس.
وأنين المرضى يُغطِّي على ألحان السواقي.
حدث ذلك حينما تُرِكَتْ كسلا في العراء، بغير غطاءٍ حامٍ، ولا دواءٍ شافٍ، تنتاشها إناثُ الأنوفيلس، وترتوي من دمائها أسراب الأيديس، التي اجتاحت المدينة بعد انهيار منظومة الصِّحة الوقائية.
كان الدرس الأول في مادة العلوم الابتدائية: (كافحوا البعوض في الطَّور المائي، قبل أن تقوى أجنحته على الطيران، فيقوى عليكم).
التوقيع الأخير الآن على كرَّاسة الوالي آدم جماع، مكتوبٌ بالقلم الأحمر (كرس وقابلني)!
-3-
والسياسة على قول الفرنجة: (مهارة تجنيب الشعوب المأساة)، ولا تُوجد مأساةٌ أكبرُ من إصابة أكثر من عشرة آلاف إنسان بحُمَّى غريبة وغامضة، تُؤثِّر على الحركة والأعصاب، وتُشوِّه ملامح الجسد، وتُفقِدُ مريضها طعم الحياة ومذاق النِّعم.
أوَّل ما تفعله الملاريا وحُمِّياتها، أن يفقد المريض مذاق الأشياء.
وأسوأ ما يُصيب السياسيَّ تبلُّدُ الإحساس بمعاناة الآخرين.
لو أن هؤلاء العشرة آلاف مُصابون بآلام الأضراس، لا بحُمَّى سريعة العدوى وشديدة العدوان؛ لكان ذلك مُستحقِّاً لاهتمام الدولة، وعنايتها الفائقة، وإضاءة اللون الأحمر!
-4-
في كُلِّ تصريحاته الصحفية والتلفازية، كان والي كسلا، آدم جماع، يُقلِّلُ من خطورة الوضع ويُطفِّفُ في أرقام المُصابين حتى لا يُزعج المركز، يفعل ذلك بثباتٍ لا يتوفَّر للصادقين.
وحينما أرسلنا مُوفداً من الصحيفة قبل أسبوعين، وأجرى ضمن تحقيقاته حواراً مع النَّاطق الرسمي باسم الولاية مجذوب أبو موسى؛ قال بصريح العبارة ودقيق المعلومات والأرقام: (حتى الآن تقارير المستشفيات والمراكز الصحية، أكدت أن عدد المصابين بالشيكونغونيا بلغ (٩٣٠٠) تسعة آلاف وثلاثمائة مريض).
هذه الأرقام الرسمية وحدها، كافية لأن تجعل كسلا موضع اهتمام كُلِّ أجهزة الدولة، ما قبل زيارة رئيس الوزراء وما بعدها.
هذه ليست بقرةً صفراءَ عواناً تعثر في بغداد، إنها صِحَّة بشرٍ بلحمٍ ودمٍ ومشاعر، يُقعدهم المرض عن العمل وكسب الرزق، ويُؤلمهم التجاهل والإهمال.
إذا لم يكن جهاز ضمير الدَّولة تُحرِّكُه هذه الأرقام، وترفع همَّة أدائه إلى الحدِّ الأقصى؛ فما الذي يُحرِّكه بسرعة إسعافية تتناسب وما اعتبره رئيس الوزراء التحدِّي الصِّحيَّ الكبير؟!!

-5-

المُوجع والمؤلم حقاً، أن كُلَّ أزماتنا ومآسينا تقع بين تقاطع نيران المُهوِّلين، وثلج وماء المُهوِّنين!
كما لا يُوجد ما يستدعي التبسيط والتقليل.. كذلك علينا جميعاً الابتعاد عن استخدام التهويل وخطاب التجزيع بالنفخ في الأرقام، أو إضافة أمراض أُخرى سيئة السمعة العالمية.
وكما هو مطلوب من الحكومة، قيادة المجهودات الطبية والصحية لاحتواء الوضع الصِّحيِّ في كسلا؛ فعلى منظمات المجتمع المدني والجمعيات والكُليَّات الطبية، وكُلِّ فئات المُجتمع، التعامل من منطلق المسؤولية التضامنية العامة، التي تلتقي في خدمتها إمكانيات الدولة بمجهودات المجتمع.
-أخيراً-

أخطر رسالة ستهمس بها بعوضة (الأيديس) في آذان الحاكمين: وزارة الصحة ليست المكان المُناسب للتَّسويات والتَّرضيات، غضب أبو قردة أم رضي أبو زيد!
وما نضنُّ به على الصِّحة الوقائية، سندفع ثمنه باهظاً في ميزانية العلاج.
سندفع ذلك من دمائنا وعافيتنا وسُمعة بلادنا، حينما يُصبح تقديم الجواز السوداني في كُلِّ المطارات يستدعي تقديم كروت السلامة من الأمراض المُعدية!.

ضياء الدين بلال


‫2 تعليقات

  1. حتى الباعوض بقى ماركه اديداس و بكرى الجراد جا يكون فيرارى و القعونج بورش و قس على ذلك وليه الباعوض ما يتفسح ويستلم الجو طالما المتنفذين بيأكلو قروش ابادته

  2. مقال شامل ملئ بالحقائق والحلول ونأمل أن تكون زيارة الأخ رئيس الوزراء بداية لمكافحة الوباء وحصر المرض وتوفير الدواء لأهلنا بكسلا وأسال الله أن يشفي كل مريض بالمدينة