حوارات ولقاءات

الفريق محجوب حسن سعد : الشرطة لم تعد جهازاً تحيطه القدسية الكاذبة


رغم ابتعاده عن المنصب ظل الفريق اول محجوب وآراء في كثير من القضايا العامة والخاصة بالشرطة حسن سعد (المدير السابق للشرطة السودانية) جديرة بالنظر والتأمل.. أجرينا معه هذا الحوار يشكل حضوراً متعدد المنابر, فالرجل له اجتهادات لتسليط الضوء على بعض جوانبها..
*سعادة الفريق اول محجوب حسن سعد، لا اسكت الله لك حساً، أين أنت الآن؟!
– الآن اعمل مزارعاً اتنقل بين شندي والخرطوم بحري، واقضي جل وقتي بين الحقول وتربية الحيوان. وهذا ما كنت افتقده ابان عملي بالشرطة، فقد كنت مملوكاً للشرطة بكل حواسي، الآن عدت للجذور، بعد ان دفعت ضريبة الوطن العزيز.. ولكن ما زلت مسكوناً بالعقلية الشرطية انضباطاً مبكراً للذهاب للحقل والضرع، فقد كنت لا انام بعد صلاة الصبح واذهب للمسجد راجلاً ما بين الموردة وجامع النيلين وبعد ذلك استقل العربة بعد لحاقها بي بعد الصلاة اما في ساحة المسجد أو في طريقي لكوبري النيل الابيض راجلاً وبرفقتي فقط حرس خاص (زايد -شريف- مصباح).. لهم التحية فقد صبروا وصابروا معي.
رحلة اليوم الثاني بين المنزل في المقرن وجامع فاروق راجلاً وبعد الصلاة مباشرة راجلاً ايضاً حتى رئاسة الشرطة برفقة احد اصدقائي الحراس حاملاً (عصا) بيدي في الحالتين اعتدت عليها.. هذا البرنامج الآن لم تتغير مواعيده (الزمان) ولكن تغير (المكان) فاصبح سيري راجلاً بعد صلاة الصبح بين الزرع والضرع لكي احافظ على صحتي.. وهو نهج التزم به بصرامة شديدة، وما تبقى من زمن اقضيه في جلسات سمر وانس ليلية في الحقل مع الصحاب أو سداد علاقات اجتماعية في الافراح والاتراح.. وزيارات خاصة وهي قليلة.. أو سعياً لقضاء حوائج الناس، او جالس في المكتبة بالحقل للاطلاع أو الكتابة.. وفعلاً افكر جاداً في التوثيق الشرطي المهني.
? اذن تفرغت للزراعة؟ تفرغ لها الآن (المتعافي) ايضاً!!، هل ثمة مساحات خضراء تجمعك بالرجل؟
– سؤال لطيف .. نعم تجمعنا ان شئنا أو ابينا ارض السودان الخضراء الواعدة باذن الله، اتمنى لهذا الرجل التوفيق فالزراعة هي كنز السودان الذي لم نسبر غوره بعد.. تحتاج لحسن الادارة والجرأة والمبادرة والابتكار.. ومن قبل ذلك التمويل المالي الواسع، الآن هذا الرجل اصبح مسؤولاً عن (الامن الغذائي) فقط.. واعتقد ان مهمته سهلة الآن جداً.. ليس كما كان عليه الحال بولاية الخرطوم.. لا يحكمه دستور ولا قانون.. فقط تحكمه الارادة الخلاقة الجريئة ونحن من رعاياه الآن.. ومستعدون وبكل ما نملك من رأي وما يملكه اهلنا من خبره ان نعينه ونسمع تعليماته ونطيعها تماماً.
? شاركت أهل ولاية نهر النيل افتتاح جسر البشير (المتمة- شندي)، كيف ترى انعكاسات وتأثيرات هذا المشروع عن المنطقة؟
– نعم جسر المتمة شندي هذا حلم ظل خيالاً تتطلع إليه اجيال من اهلي بتلك المنطقة، فهو مشروع تنموي قومي، رباط بين شرق النيل وغربه، وقد حرصت على حضور هذه المناسبة القومية، لانها نقطة تحول في تاريخ المنطقة وكنت واحدا ممن عانوا كثيراً من (البنطون)، والآن بحمدالله تحقق لهذا الحلم، ومثل هذه المشاريع القومية الجبارة لا تصنعها إلا قامات عملاقة، ولزاماً علىَّ ان انتهز هذه الفرصة لتقديم تحية اجلال واكبار للباشمهندس اسامة عبدالله، وهوعنوان الشباب وسيظل اسمه محفوراً في ذاكرة السودان بما اداره من مشاريع سيسجلها التاريخ المعاصر بأنها كانت تطوراً تنموياً يمثل نقطة تحول في تاريخ الانسان في السودان، والآن نحن احوج ما نكون لمثل هذه النماذج القوية من الشباب.
? سيد محجوب، من المفترض ان ينشغل الرأي العام والاعلام بجهاز كالشرطة عند وقوع جريمة ما أو اذا ارتفعت معدلاتها مثلاً.. أو حتى اذا ساءت الطمأنينة والاستقرار كتقدير لاداء واجباتها.. اما ان ينشغل الكل باخبار تعيينات واحالات قياداتها للمعاش كل مرة!! كأنشغالهم باخبار النجوم والمشاهير فهذا ربما شأن جيد ما سر ذلك برأيك؟
– الشرطة اصبحت تشغل الرأي العام في كل شؤونها، وهذا دليل عافية فهي ليست جهازاً يمنع منه (الاقتراب والتصوير)، انما هي لوح مكشوف للجميع لم يعد جهازاً تحيطه قدسية كاذبة.. اصبح جهازاً تنفعل به الامة وتتفاعل معه، ومطلوباتها منه بأن يكون حارساً اميناً على امنها ومقدراتها، واذا ابتعد الرأي العام والاعلام عن الشرطة فهنا مكمن الخطر، فالرأي العام والاعلام هما الرقيب والمحاسب، كما ان مثل هذا النوع من العلاقة تتشكل منه حضارية الشرطة وتقدمها وحياديتها، التي تنقص بالقدح ولا تزيد بالمدح، فهي عدل دائم بين الناس، مثل هذه العلاقة بين الرأي العام، والشرطة يجب ان تتمدد لتشمل حتى تلك التغييرات التي تحدث في جسم الشرطة، فهي اشارة للاهتمام، حيثما تكون العلاقة بين الشرطة والجمهور جيده فإذن هناك جهاز يرصد ويقيس هو الاعلام والرأي العام، وحينئذ تتوافر للشرطة الارضية الطيبة للعمل على استتباب الامن والطمأنينة، وهذا مطلوب تحقيقه كواحد من اهداف الشرطة الاساسية.
? ذكرت من قبل في احد اللقاءات الاعلامية بعد خروجك من الشرطة انه من الاصح ان يكون لمدير الشرطة تحديداً (عمراً افتراضياً) في القيادة، كونه يتعرض لمشاق المسؤولية المهنية، وتنهكه الاعباء الجسام، تطول اعماركم مع العافية يا سعادتك!! انما ما بال هذا العمر القيادي صار قصيراً ومبتوراً هكذا؟؟
– نعم هذه الوظيفة (مدير عام الشرطة) يجب ان يحدد لها عمر لا يتجاوز الثلاث سنوات، كحد اقصى تنقص ولا تزيد حسب الظروف وان يكون ذلك معلوماً قانونياً أو لائحياً لكافة الشرطيين، وهذا يحدث استقراراً في المهنة ومنسوبيها، ويحدث استقراراً لقيادة الشرطة (المدير العام) ليتحدد برنامج عمله وفق تلك المدة بخطة عمل تستوعبها الفترة.. هذا المقترح عرضته على كثير من قيادات الشرطة ابان فترة عملي ليس هروباً من واقع العمل والمسؤولية ولكن التجربة التي خضناها كانت مليئة بالاعباء الثقيلة، والحمد لله اننا عبرناها بمواقفها المتعددة والمتنوعة والمتسارعة، وكان جديراً بنا ان نقول الصدق وبأمانة حتى نضع منهج عمل جديد لفترة عمر المدير العام بالمنصب، وايضاً ليأتي من بعدنا و(يكرب وسطه) ليتحمل تلك المسؤولية الجسيمة، ولتبتعد الشرطة عن المؤثرات السياسية محافظة على حياديتها، وما يدور حول مديرها العام واختياره للمنصب لاسباب سياسية أو انها ليست مهنية.. وتنقله من هذا اللغط الى دائرة لا جدلية حولها وهي دائرة المدة المحددة قانونياً ولائحياً وتكون رسالة لكل ضباط الشرطة بأن يجدوا ويجتهدوا ويحسنوا الاداء لينافسوا في شغل المنصب المهم هذا في تدرج طبيعي.
? احد كتاب الاعمدة الصحفية المؤثرين، باحدى الصحف السودانية ذائعة الانتشار قال ان الفراغ الذي تركه محجوب حسن سعد بالشرطة يصعب ملؤه.. مع الاحترام لكل قادتها الجديرين.. تعليقك؟
– القياس البشري للبشر ليس حكراً على حيثيات وآراء كتاب الاعمدة الصحفية ومع كامل تقديري واحترامي، وظنهم الحسن بي، وارجو ان اكون كذلك، فهم يشكلون جزءاً من الرأي العام الآن.. والشرطة كما ذكرت تحت المجهر دوماً.. ولا ينجو من آلة الاعلام احد.. ولكن هذا القياس اظنه يتحدث عن الشرطة وما واجهته من صعاب امنية نجحت الشرطة في التصدي لها وارجعت للشرطة ثقتها بنفسها وثقة المواطن فيها، بل رضا المواطن عنها، وهذا ما كنا نعمل له ونبذل قصارى جهدنا لتحقيقه نحن ومن كان قبلنا من قيادات الشرطة ومن اتى بعدنا ايضاً هذا هو سعيه، وعموماً أنا اشكر كاتب ذلك العمود نيابة عن منسوبي الشرطة وكل افرادها المنتشرين في كل الاصقاع في السودان.
? لكن يا سيد محجوب ذلك (التقلقل القيادي) ان جاز التعبير- في مؤسسة الشرطة السودانية وفي هكذا توقيت- ألا يتسبب في بعض ارباك للخطط ونظامية العمل، بل ومعنويات القوة ككل؟؟ ام ان المؤسسية النظامية الصارمة كفيلة بامتصاص (فجائيته ولا توقعه) ام انه شأن لا يصح الخوض فيه ايضاً؟
– نظام العمل الشرطي لا يرتبك ابداً.. الشرطة لا تتقاعس ولا تتراجع ويكون المحك المحافظة على نظام العمل الشرطي المبني على الطاعة.. فهي قوة نظامية متى وجدت القيادة المدركة لنظام العمل وملتزمة ولديها القدرة على المتابعة، والقدرة على تأمين الحقوق لمنسوبيها ومنحها لهم، والزامهم بالواجبات التي عليهم تنفيذها، عندئذ نجد الشرطة قد وضعت نفسها في الموقع الذي يجب ان تكون فيه لا تتزلزل ولا تهتز.. ثباتاً بقوة القانون، احقاقاً للحق، وازهاقاً للباطل في حيادية مستقرة واثقة، ومعنويات قوى الشرطة هي صمام الامان واشارة لا تخطئها العين على جاهزية قوة الشرطة لتنفيذ واجباتها مهما كانت، عبر عدالة بين منسوبيها يجب ان يحس بها كل شرطي.
? لا شك انه ومنذ الاحداث التي اعقبت رحيل د. جون قرنق، برز واقع امني جديد، كان نقطة تحول في الخريطة الامنية في كل السودان، خاصة العاصمة الخرطوم.. وانت تجول في شوارعها كيف تستشعر (عافية الامن) فيها ومقتضيات (الامن والتأمين)؟
– الامن كالعافية لا تحس بقيمته إلا عندما تفتقده..واي نقصان في هذا الاحساس المطمئن هو نقصان في الامن، سرعان ما تلتفت الاعين وتبحث عن الشرطة أين هي؟ وماذا تعمل؟ والامن الداخلي هو مشتملات ذلك الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي من خلاله يباشر الناس حياتهم كافة، ولاية الخرطوم أو العاصمة القومية تشكل (90%) من قيمة الامن السوداني، لماذا؟ لانها العاصمة ولانها عاصمة اكبر دولة افريقية مساحة، وتاسع دولة عالمياً من حيث المساحة، وهي مركز الثقل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي هي عنوان السودان، والخرطوم لها تركيبتها السكانية والعمرانية معقدة التكوين بين الحضر والريف وتضم الوسط والاطراف، امتداداتها الافقية والرأسية عجيبة!! مكوناتها الاقتصادية متداخلة ومتشابكة، نشاطاتها البشرية مركبة، وهي نموذج حقيقي لعاصمة دولة في طور التكوين النهم، وبالتالي هي في اشد الحاجة للامن المستدام لا تستقر ان هي فقدته للحظة واحدة، حينها تفقد العافية وتصعب المعافاة لذا على شرطتها ان تكون في احسن حالاتها دعماً مادياً ومعنوياً ولوجستياً، واجهزة المعلومات لديها (قرون استشعار) واسعة وحساسة تتنبأ بما هو محتمل ان يكون في اسوأ الاوضاع ونضع له السيناريوهات المتعددة، افتراضات تقابلها خطط امنية حكيمة ومحكمة ،من أهم واخطر الاجهزة الشرطية التي ابتدعتها وزارة الداخلية هي مواقع بسط الامن الشامل، والتي ظلت تتأرجح في تنفيذ الواجبات تباعداً وتقارباً.. فمشروع بسط الامن الشامل عملاق امني يجب ان تنتبه له ولاية الخرطوم وحكومتها لانها ان احكمت حلقاته الادارية والفنية احكمت امن مواطنها بالولاية.
? الشرطة صارت مهنة جاذبة للشباب للانتماء والعمل وخيار مفضل لدى كثير منهم.. هل لحظت هذا؟
– ان تصير الشرطة مهنة جاذبة فهو امر جيد، وهو عنوان لعلاقة متنامية بين الشرطة والجمهور، وهو عنوان لرضا الجمهور عنها، وقناعات الناس بها، كما ان امكانياتها تحسن مستوى الفرد فيها، وحسن معاملتها للجمهور تشد آخرين، فهي لم تعد ابداً كما كانت من قبل طاردة وغير مطلوبة.
? انت ظللت مهموماً بالتركيبة القومية للشرطة السودانية، ووحدة القيادة، وبعد ذلك الشد والجذب الكثيف في عهدك، تبين لك ربما الآن ان (نيفاشا) لم تخلف اي آثار سالبة على مهام أو صلاحيات الشرطة الاتحادية في الولايات خاصة العاصمة الخرطوم؟
– ان فقدت الشرطة قوميتها ستصيبها الجهوية والقبلية، وحينئذٍ ستفقد عنصر الحيادية مرتكزها الاساسي، اتفاقية (نيفاشا) نظرياً قسمت الشرطة الى (3) مستويات، ولم يكن اعتراضنا على (نيفاشا) في توجهها نظرياً لكن عملياً ستكون هناك عقبات تحول دون تنفيذها حرفياً.. ما جاء بها لم يكن زمانه حتى الآن ولربما يكون مستقبل السودان متفق حوله تماماً، لكن حين تقوم في السودان البنيات التحتية الاساسية كافة، كما ان الشرطة بتكوينها المتوارث عبر الحقب ستكون حسبما يحكمه نظام ثابت مستقر بقوانين متعاقبة تتحدث عن منهج يشكل مبدأ أساسياً بقول بـ (قومية التكوين ولائية التشغيل).
? الانتخابات القادمة يا سيد محجوب ربما تحتاج (طقساً) امنياً وسياسياً (صحواً وذكياً ومشرقاً).. ما هي توقعاتك للمناخ الانتخابي المقبل؟
– الشرطة بالطبع احدى الوسائل المهمة لاقامة مناخ امني يلائم العملية الانتخابية ولا يغيب عنها، الاستعدادات السابقة للعملية الانتخابية هي التي تحدد كيفية تعامل الشرطة، لكن يجب تنفيذ دورات تدريبية لمنسوبي الشرطة، وهو ما يقومون به فعلياً الآن على مستوى القيادات لكيفية تأمينها والتعامل مع كل الاحتمالات والسيناريوهات المحتملة والتحسب لها.
? هل لا زلتم تتواصلون بنهج المشاورة والمناصحة بينكم والقيادات والقادة الشرطيين؟ ام ان لكل قيادة نهجها ورؤاها تجاه السلف؟
-من ترك الخدمة من قيادات الشرطة التي مضت كانت تناصحنا ولم تبتعد عنا وهو نهج ملازم للجميع ولا يمكن لاحد منا جميعاً نحن السابقين ان نبتعد من المناصحة للقيادات الجديدة وهو السند الحقيقي لزملائنا لان طموحاتنا ان لم نحققها نحن فإننا نسعى لتحقيقها عبرهم، ونعكس لهم صوت ورأي الشارع الذي اصبحنا جزءاً منه، وندافع عنهم ونجد لهم الاعذار والمبررات ونعلم الظروف المحيطة بهم، ونتصدى لمن يهاجمهم بلا موضوعية.. الشرطة انتماء لا خيار لنا فيه غير الوفاء له.