جعفر عباس

الصابون الملعون


[JUSTIFY]
الصابون الملعون

سبحان الله فصاحبكم الذي تربى في بيت مبني من الطين، وكان يخشى يوم الجمعة، رغم أنه كان اليوم الوحيد الذي يرتاح فيه من سخف المدرسة والحفظ والتلقين والضرب بسبب جدول الضرب، ثم صار يمشي «ومناخيره مرفوعة إلى السماء» تيها وخيلاء، لأن خاله أهداه حمارا يذهب به إلى المدرسة، يجلس في هذه اللحظة مرتديا قميصا يهبل ويجنن وكمان كرافتة زاهية الألوان وحذاء يستطيع أن يرى انعكاس وجهه فيه (تعمدت التأنق بدون مناسبة قبل قليل لأقارن بين جعفر عصر البخار وجعفر التكنولوجي الذي صار متحضرا بدرجة أنه يستطيع أن يأكل الملوخية بالشوكة والسكين).. كنت أكره يوم الجمعة لأنه يوم التعذيب الأسبوعي، أي الاستحمام في الطشت: تضع أمي جردل/ سطل الماء قرب الطشت وتصب الماء على جسمي مستخدمة الكوز، وتأتي بقطعة صابون من الطشت المخصص لغسل أواني الطبخ، وتبدأ في فرك جسمي، ويبدأ التعذيب الفعلي مع صب الماء على الرأس ثم دعك الشعر بالصابون، وكان صابون ذلك الزمان فيما اعتقد مصنوعا من مواد غير قابلة للذوبان السريع في الماء، مضافا إليها بعض الشطة، ولكي تنتج عن ذلك الصابون رغوة كان لابد من فرك الجسم ودعكه بقوة ولمرات عديدة متتالية، وحينما يتعرض رأسك للفرك والدعك لنحو عشرة دقائق، وأنت تصرخ وتبكي، فلابد وحتما أن يتسرب بعض الصابون إلى عينيك فتصيح: يا يمه.. خلاص.. حرام عليك.. دا أنا غلبان.. ثم تتلو ذلك جلسة تعذيب ثانية قاسية، فما لم يتم حلق شعر رؤوسنا على الفروة (زيرو) كل يوم جمعة، كان القمل يتخذ منه مأوى يتغذى منه ونحن أصلا «ما عندنا دم»، وكانت الأمواس في كل البيوت متوارثة أباً عن جد، فقد كانت في كل بيت «علبة حلاقة» بها أمواس قد يكون بعضها استخدم في ختان أحد كبار رجال العائلة، وبأمواس شفراتها في سمك شفرة المحراث، كان لابد من جروح ودماء تسيل وعويل، ولكن الألم كان يختفي فور تغطية الرأس بعجين الذرة، وكنت فور وضع العجين على رأسي أحس نفس إحساس من يستخدم اليوم «آفتر شيف» فرنسي بعد حلاقة ذقنه بأداة كهربائية سلسة تداعب الخد والفك كلمسات حبيب يتقن البكش والحركات القرعة.
الغريب في الأمر هو أنني ورغم أن الكثيرين يحسبونني «متحضرا» – لأنهم يقيسون الأمور بالمظاهر – لا أستخدم الشامبو أبدا لغسل شعر راسي، وليس مرد ذلك أنني من أنصار القذافي الذي منع يوما ما استخدام الشامبو في ليبيا بزعم أنه يصنع من البيض بينما الفقراء لا يعرفون طعم البيض، ولم يكن صاحبنا يدري أن هناك أنواعا كثيرة من الشامبو لا علاقة بها بالبيض، ولكن لأن تجربة الطفولة علمتني أن الصابون هو أفضل أداة لتنظيف أي جزء من الجسم، وبالتأكيد لا أستخدم الصابون الذي كانت أمي تهري بها جلدي، لسبب بسيط وهو أن منظمة العفو الدولية وهيئة الصحة العالمية نجحت في وقف إنتاجه وحرّمت تسويقه، باعتبار أنه يصنع من نفس عناصر القنابل المسيلة للدموع، ولما عرفنا أن هناك صابونا خاصا بالاستحمام أسميناه «أبو ريحة»، بل استخدم اليوم أنواعا من الصابون لو رأيتها في صباي لحسبتها نوعا من الكعك أو الحلويات (اعترفت من قبل بأنني عوضت حرمان أمي لي من السيريلاك بذريعة ترشيد الإنفاق – عندما كنت رضيعا، بأكله بكميات تجارية بعد مولد طفلي الأول).
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]