ضياء الدين بلال

في وداع “محمدية”


[JUSTIFY]
في وداع “محمدية”

رحل صاحب الكمان الحنين والابتسامة الناصعة، محمد عبد الله “محمدية” بعد صراع طويل مع المرض.. ودَّعه زملاؤه بالدموع والدعوات.
في هذه المساحة، كنا قد ناشدنا رئيس الجمهورية، المشير عمر البشير، الوقوف مع الرجل في محنته (محمدية يا ريس). ولم تمضِ ساعات حتى جاءت الاستجابة عبر مدير مكتبه الفريق/ طه عثمان الحسين، فنقل الرجل إلى الأردن للعلاج، وعاد إلى البلاد بصحة جيدة، ولكنها الأقدار، فقدْ صعدت روحه إلى بارئها صباح أمس.
مرة أخرى نعيد قصة الأعوام الخمسين من العطاء الجميل في سطور.
(ذهب الشاب إلى مناسبة زواج شيخ النقاد ميرغني البكري، حاملاً آلة الكمان، وفي دواخله فرح لا يضاهيه فرح، نسبة لأن ذلك الحفل ستحييه الفنانة عائشة الفلاتية، والعزف خلف الفلاتية في ذلك الزمان كان حلماً يراود كل عازف مبتدئ، ولكن وأثناء صعوده للمسرح، فوجئ بعائشة تسأله في حدة: (إنت منو..؟)، وقبل أن يرد عليها، أجابها أحد العازفين بأنه عازف جديد. عائشة طلبت من الشاب النزول من المسرح لأنها (لم تسمع به من قبل)، وبالفعل هبط الشاب من المسرح بكل احترام، لكنه بعد فترة وجيزة (صعد) بسرعة البرق وأصبح من أميز العازفين على آلة الكمان في الساحة الغنائية.

مقدمة رائعة سطرها قلم الصحفي النابه يوسف دوكة، في دردشة رمضانية مع العازف البديع محمد عبد الله، المشهور بمحمدية قبل سنوات مضت.
الرئيس عمر البشير في أحد الاحتفالات الرسمية، في ولاية من الولايات ورجال المراسم والحراسة يحجبون عنه رؤية المسرح، والمغني يستعد لبداية وصلته الغنائية، والعازفون يختبرون أوتارهم، وبعفويته المحببة يشير البشير بيده قائلاً: (يا جماعة زحوا شوية نحن ما بنتكيف للغنا إلا عندما نشوف محمدية).
في النصف الأخير من السبعينيات، والتليفزيون كائن سحري، يدخل منزلنا بحي المزاد بلونيه (الأبيض والأسود) في مناقل الخير والوفاء ليغيِّر الخارطة الزمنية لأمسياتنا.
كانت الأغاني تتخلل البرامج عبر روائع عثمان حسين ووردي وأبو داؤود والأنيق عبد العزيز المبارك (تحرمني منك ويبقى عمري أسى وجراح).
بين ذاك الجمال، كانت ابتسامة ناصعة لشاب أبنوسي يميل إلى سمنة نادية، تشكل حضوراً لافتاً بين جميل الأنغام والألحان.
كنا نستمتع بابتسامة محمدية، وهو يمسك بآلة الكمان ليفعل بها ما يشاء، يجعلها تغرد وتضحك وتبكي كما الأطفال.
ابتسامة محمدية الناصعة، كانت إحدى إشراقات وعلامات ذلك الزمن الصافي الجميل.
وحينما اشتعل اهتمامي بالأفلام الوثائقية في مستهل الألفية الثالثة، كانت واحدة من الأفكار التي تراودني إنتاج فيلم عن محمدية وشرحبيل أحمد.
ومع حسين خوجلي تحضر الفرص الضائعة. كان الموعد مع حسين إجراء مقابلة رمضانية مع ثلاثة صحفيين في أجيال متعددة في برنامج (تواشيح النهر الخالد).
غاب الاثنان وحضرت أنا، والمغنون كانوا حضوراً والعازفون كانوا منهمكين في تجهيز آلاتهم.
البرنامج كاد أن يُلغى.
كنت وقتها أتأمل في ملامح محمدية، وهي خالية من تلك الابتسامة النَّضِرة، ربما أصبحت مغطاة بطبقة من الحزن الكثيف.
فاجأتني فكرة خاطفة، فقلت لحسين: (لماذا لا نجعل من هذه الحلقة مناسبة لتكريم محمدية، بتحويله من مقاعد العازفين إلى مقاعد الضيوف؟.. الرجل ظل لخمسين عاماً يحيي كل مناسباتنا السعيدة في صمت دون أن يقول كلمة واحدة).
حسين بارع في تطوير الأفكار وتجميلها؛ فكانت الحلقة إحدى أجمل حلقات البرنامج التي تجاوزت الأربعين حلقة.

وكان الاكتشاف المدهش أن محمدية يحمل رؤى فلسفية في الفن والحياة وحتى في السياسة. كان استفتاء الجنوب على المشارف، وكانت كل الطرق تؤدي للانفصال.
في تلك الليلة، وبين سؤال وإجابة، وضع محمدية فكرة ماسية على جيد الحلقة حينما قال: (في بورتسودان كنت صبي نجار مع معلم كبير، كان يردد لي دائماً: قيس ألف مرة، وأقطع مرة واحدة، حتى لا تندم).

كان يصف معشوقته آلة الكمان- برفق معاتب – بأنها فاضحة للأخطاء، ويمكن للإنسان العادي أن يلحظ هناتها وهفواتها.
كان محمدية ماهراً في العزف، وبارعاً في كرة القدم، تزوج الأولى وطلق الثانية، وقال لدوكة: (لو كنت بلعب كورة كان جاني شد عضلي أو كسر في الأنكل وكان هسي من مستشفى لمستشفى، عشان كدا أخير لي كماني دا لا بكسر كراعي ولا بجيب لي شد عضلي).
بعدها أطلق ضحكة مجلجلة.

بعد تسجيله لآخر حلقة في برنامج (أغاني وأغاني) بقناة النيل الأزرق، لزم الموسيقار ملك الكمان محمدية فراش المرض.

لم يكن العازف المخضرم يدرك أنه هرب من إصابات الملاعب، ليصاب بآلام حادة لطول الجلوس أغلب اليوم في حضرة الكمان.

كانت أوتار الكمان الأربعة وقوسها، بمثابة أبنائه وبناته، يتعهدها بالاهتمام والرعاية. سهر الليل وتدريبات النهار، شغلته عن تكوين أسرة صغيرة، تراعيه حين يَهِنُ العظم وترتخي الأصابع.

تطور المرض وتسرب الحزن والاكتئاب إلى مسام الروح، وهجر محمدية كمانه، وظل يقضي الليل والنهار في غرفته بلا ضوء ولا جليس.
منذ تلك اللحظة بدأ العازف البديع في إطفاء الأنوار.
رحم الله محمدية وأسكنه فسيح الجنان ببركة هذه الأيام.

أخيراً:
سنعود إن شاء الله للتعليق على ما كتبه الأستاذ/ عثمان ميرغني في الزميلة (التيار)، رداً على عمود (عثمان ميرغني وإسرائيل).
[/JUSTIFY]

العين الثالثة – ضياء الدين بلال
صحيفة السوداني