تحقيقات وتقارير

الذهب الأصفر فَقد بريقه وتداعى عرش ملك الطريق:


بدأ اللون الأصفر في التلاشي شيئاً فشيئاً من شوارع الخرطوم.. فَقَدَ الذهب الأصفر بريقه.. وهبط ملك الطريق من عرشه خلال السنوات القليلة الماضية.. وبعد أن كان التاكسي سيداً للطريق له هيبته ومكانته أصبح أصحابه يعانوا قلة الدخل وسوء الحال وضعف الطلب.. وبعد أن كان يأكل لقمته لوحده أصبحت تشاركه وتتفوق عليه فئات أخرى صارت بين ليلة وضحاها تقلقه وتخطف اللقمة من أمامه فامتلأ أصحابه حسرةً وألماً فأصبحوا يعضون أصابع الندم على الأيام الخوالي.. فإلى أين ذهب ملوك التاكسي بأيامهم الحلوة وترابطهم وقصصهم ومغامراتهم وتجاربهم ونوادرهم؟ بمن اكتوى أسياد الطريق وأهدرت كرامتهم وطمس اسمهم ومركزهم واستولى على عزهم وفخرهم.. فهل ينتهي الكابوس، وهل يصحو التاكسي من غفوته؟ هل تعود الحياة للأصفر..؟ أم هو موت أكلينيكي أبدي لا رجعة فيه..

رخصة القيادة

قديماً لم يكن الحصول على رخصة قيادة تاكسي أمراً سهلاً وميسراً كما هو الحال الآن، فالأمر يحتاج إلى معرفة تامة بشوارع الخرطوم واختبارات للصبر والتجلد والأمانة، هذا إضافةً إلى البراعة والخبرة في القيادة.. وقد وصف البعض الحصول على رخصة قيادة تاكسي في ذلك الوقت (1957- 1979م) بأنها أكثر تعقيداً من الحصول على تأشيرة دخول للولايات المتحدة الآن.. بل وهنالك وجه شبه إن فشلت في الاختبارات الممنوحة من الإدارة المختصة لمنح الترخيص حينها لا يمكن معاودة الطلب إلاّ بعد ستة أشهر..

مكمن الصعوبة

وعن فحوى هذه الصعوبة يحدثنا أحد ملوك التاكسي عبد العزيز الوسيلة سائق تاكسي منذ عام 1974م قائلاً:(مكمن الصعوبة في الحصول على رخصة قيادة تاكسي في ذلك الوقت تتركز في الاختبارات الدقيقة لبراعة القيادة من قِبل إدارة المرور في المنطقة الواقعة خلف (دار الرياضة) أضف إلى ذلك المعاينات التي تُجرى للتأكد من الدراية التامة لشوارع الخرطوم فتسأل من مواقع الوزارات تحديداً والمستشفيات وأسماء الطرق الرئيسية والفرعية وعلامات المرور بتفاصيلها وحتى أسماء الدايات (القابلات) وأماكنهن في الخرطوم، أم درمان وبحري لتكون عربة التاكسي أشبه بعربة طوارئ متحركة فتصبح لديك معرفة تامة بأقسام البوليس، الشفخانات، المطاعم، الشخصيات الاجتماعية والسياسية المرموقة، النوادي وغيرها.. وحتى الآن أنا أذكر (سليمان موسى) المسئول عن مكتب الترخيص والذي اشتهر بصعوبته في منح هذه التراخيص والذي إن راوده أي شك في مقدرتك يختم لك بمعاودة المحاولة مرة أخرى بعد ستة أشهر.. أنا شخصياً حينما حصلت على رخصة القيادة أقامت أسرتي احتفالاً كبيراً وكرّمت بذبيحتين إحداهما للأسرة الكبيرة والأخرى لأصدقائي وجيراني وتقبلت التهنئة الحارة كأني حزت على الدكتوراه أو تم تعييني وزيراً.»

الزبون الفلسان

سألنا صاحب التاكسي الفاضل الحاج عن أهم مواصفات التاكسي الناجح فأجاب دون تردد أن يكون بارعاً في قيادة سيارته ويحافظ عليه دونما خدش يصيبها وإن أصابتها علة يعلمها بحاسته، وأن يكون قوي الملاحظة في معرفة الزبون الفلسان، وأن يكون سريع التصرف خاصةً مع رجال المرور والزبائن، وأن يجيد التفاوض لاستخلاص أكبر قيمة سعر لأقل مشوار وتجنب الثرثرة مع الزبائن بقدر الأمكان إلاّ عند اللزوم وتجنب حمل الفكة.

كعب داير

يقول السائق أحمد المبارك متذكراً أيام الشقاوة بقوله: «كنت أقف على بُعد شارعين من فندق المريديان بالخرطوم وفلسان والحالة صعبة والجو حار فحضر إليّ خواجة يطلب مني مشواراً للمريديان فعلمت أنه زبون جديد لا يعلم شوارع الخرطوم…فالفندق على بُعد خطوات منه ولأن الحالة كانت صعبة والزبون (داقس) قلت له المشوار دا بعيد ما بقدر أمشيه، فبدأ الخواجة في الإلحاح عارضاً أكبر سعر يتمناه أي سائق تاكسي يمكن أن يوصل الزبون (الملحلح) إلى الكاملين، فاصطنعت الموافقة على (مضض) وحينها قمت بجولة بصاحبنا في شوارع الخرطوم والرميلة ثم أركويت والصحافة (كعب داير) لأعود به للمريديان مرة أخرى وكان المشوار قد استغرق (40) دقيقة وهو لا يتجاوز الثلاث دقائق بالأرجل وقد شاهدني الزبون أتصبب العرق من طول المشوار فأعطاني (بقشيشاً)، وأنا الآن أتذكر هذا الموقف واتحسر على سوء فعلتي بالخواجة..

مفردات وكنية

وكان لكل صاحب تاكسي يجول بعربته في الخرطوم طريقته وكنيته، وأيضاً كان لأصحاب التاكسي مفردات يعرفونها فيما بينهم، فمثلاً من العربات المشهورة في الستينيات وبداية السبعينيات (الكركوبة)، (الكركعوبة)، (أجلك تم)، (القعونجا)، (الطيارة) و(ارحمها)، ومن أسماء أصحاب التاكسي (السائق ديمة)، (المكوجي)، (كرّهنا السواقة)، (ديمة نافر) و(الفلسان)… وعن حالة التاكسي عند قولهم (شاربة سجائر)، كناية عن خفة الماكينة أو (حفيانة) عن قدم اطاراتها أو (ممكيجة) كناية عن تقشر لونها أو (معمشة) أي أنوارها لا تعمل أو (خرساء) يعني البوري لا يعمل أو (حيلها ميت) يعني عاوزة دفرة أو (عطشانة) يعني تحتاج لوقود…والملجنة تكون عندهم شاربة سجائر، حفيانة، ممكيجة، معمشة، حيلها ميت، عطشانة وخرساء ..الخ.

أبواب السعادة

وكان مشهوداً لأصحاب التاكسي أمانتهم وحرصهم على حقوق زبائنهم، وإن ضاع لأحد الزبائن حق فما عليه إلا الحضور إلى مجمعهم والسؤال عن ما فقده وسرعان ما يجده إن فقد في أحدى عربات التاكسي المحدودة العدد في شوارع الخرطوم.

يقول يوسف محمد عوض ذاكراً الحادثة التي فتحت له أبواب السعادة قائلاً»طلب مني أحد الأخوة السعوديين في منتصف الثمانينيات والذين يزورون السودان كثيراً في ذلك الوقت توصيله إلى فندق الهيلتون، وكان يمسك شنطة السمسونايت بيده اليمنى ولفافة بيده اليسرى فوضع ما يحمله في الكرسي الخلفي للعربة وجلس بجواري أثناء المشوار يتحدث عن أخلاق السودانيين وكرمهم بوصفه مجتمعاً ليس له مثيل في كل العالم.

وحينما وصلنا إلى بوابة الفندق حمل الشنطة بسرعة ودلف إلى الفندق بعد أن أعطاني أجرتي وعندما هممت بالتحرك إذا بي أرى اللفافة في مكانها على المقعد الخلفي للعربة فأخذتها وتبيّنت من الكيس الشفاف الملفوفة به أنها مجموعة مقدرة من العملة الصعبة (دولارات وريالات) فحملتها مسرعاً لألحق بالزبون فاستوقفني رجال الاستقبال فأخبرتهم بأن الزبون الذي دخل الفندق قبل قليل لم يدفع أجرة التوصيلة ولو أخبرتهم بكامل الحقيقة لأصروا على أخذ اللفافة ولا أضمن أن تصل إليه فطلبوا مني الانتظار في عربتي خارج الفندق وبعد وقت طويل ومُمل تجاوز الساعة والنصف جاءني الآخ السعودي وهو يبتسم وأخبرني بأنه تعمد ترك اللفافة في التاكسي لاختبار مدى أمانتي بعد أن دوّن رقم التاكسي ليتأكد بفضل هذا الموقف من الأمانة فقط، بل من الحكمة في التعامل مع الأمور والحيلة بأن أظهر لرجال الاستقبال عدم دفع الأجرة حتى يسلم الأمانة لصاحبها بنفسه.. وعندما سألته عن جدوى هذا الاختبار أخبرني أنه بحاجة إلى سائق ليعمل معه في المملكة العربية السعودية ففضل أن يختبر أمانته بنفسه وما هما إلاّ يومان حتى تم اعداد جميع أوراقي للسفر وهنأني زملاء المهنة وشعرت بهم أكثر سعادة مني بهذا الموقف وهذه المكافأة.

مشوار وابتسامة

يقول عبد العزيز الوسيلة أحد ملوك التاكسي مستحضراً موقفاً لا ينساه بقوله» في أحد أيام صيف 1974م والشمس الحارقة تزداد لهيباً وبينما كنت أتجول في أحياء أم درمان القديمة بحثاً عن مشوار ثمين وزبون من النوع الثقيل، استوقفتني فتاة في منتصف العشرينيات حسنة المظهر فاخرة الهندام كانت تحمل شنطة اليد بأناقة وتضم بعض الكتب بيدها الأخرى، سألتها عن وجهتها فأجابتني بابتسامة أنها تود اللحاق بمحاضرة الساعة 12 في جامعة الخرطوم.

يقول عبد العزيز الوسيلة: فتحت لها الباب الخلفي بطريقة بهلوانية معلناً موافقتي على التوصيلة، وفي الطريق تبادلت معها الحديث في أمور متعددة حتى ظهرت أسوار الجامعة لا أذكر حتى الآن ما هي الكلمات التي كنت أتفوه بها حينما دست على الفرامل أثناء توقفي في بوابة الجامعة، ولكن كل الذي أذكره جيداً أنها نزلت من التاكسي وأغلقت الباب الخلفي بعنف ونزعت فردة حذائها من أحد قدميها بعصبية والذي كان يسمى (دكتور شول) على ما أذكر ذي النوعية مدببة الكعب وقامت بضربي بالحذاء في منتصف رأسي ضربة قوية أفقدتني الوعي للحظات وعندما صحوت من غفوتي وجدت الدماء قد أغرقت قميصي وتم نقلي إلى المستشفى فاستدعى الأمر ثلاثة غرز لخياطة الجرح وقمت بفتح بلاغ في قسم الشرطة بأوصاف الفتاة بتهمة الاعتداء بالضرب لسائق تاكسي بدون سبب، حيث أمر الضابط المختص باصطحابي مع أفراد من الشرطة إلى الجامعة للتحفظ على المذنبة وبالفعل توجهنا إلى الجامعة وهناك أخبرنا مديرها بالواقعة وقام مشكوراً باستدعاء جميع الطالبات في طابور عرض استطعت دون جهد يذكر التعرف على الفتاة، وعند سؤالها عن سبب ضربي الذي تسبب في جرح كبير في رأسي قالت إنها فهمت بعض الكلمات التي تفوهت بها أثناء التوصيلة بالخطأ بأنني لي غرض غير شريف معها ولأنها من أسرة محافظة ضاقت بالأمر وتصرفت هذا التصرف.. عندما فكرت في الأمر وتم شرح الغلط قمت بشطب البلاغ وعفوت عنها ولكنه موقف لا يُنسى..

متنافسون جدد

يعاني أصحاب التاكسي هذه الأيام من سوء الدخل وقلته مع وجود منافسين جدد مثل الركشات والأمجاد وتوفر المواصلات العامة مع قلة قيمة المشوار.. سألنا سائق التاكسي آدم مختار شجر عن أسباب ذلك فأجاب قائلاً» عايشين الآن بالصبر فقد قلّ الاقبال على التاكسي والله أنا واقف منذ صباح اليوم والآن الساعة الواحدة لم أتحرك من مكاني هذا بالرغم من أن المشوار الداخلي لا يتعدى 3 جنيهات والسبب في ذلك الزوار الجدد على الطريق، ويقول البعض إنّ الأمجاد تحمل أكثر والركشات (أرخص أعاننا الله)» أما الزبير أحمد وهو يعمل سائق تاكسي لمدة 27 عاماً فيقول» لم يتبق لنا سوى الذهاب إلى ناس الزكاة لطلب المعونة السريعة، لي ثلاثة أبناء في الجامعة في حاجة إلى 15 جنيهاً يومياً إضافة إلى مصاريف المنزل الاعتيادية ودخل التاكسي اليومي لا يتجاوز الـ 20جنيهاً، ناس التاكسي إتصرفوا باعوه واشتروا ركشات وأمجاد يعني ببساطة كده انتهت مملكة التاكسي.»

إعادة مملكة التاكسي

أصحاب التاكسي شريحة مقدرة من المجتمع السوداني أصابها ما أصابها من تأثير السياسة الاقتصادية وتحريرها ففتح الباب في العام 1990م للنقل الطارئ ثم النقل الوسيط ثم لكل من يملك سيارة أن ينقل المواطنين كيفما يشاء.. فأصاب ذلك أصحاب التاكسي بكثير من الضرر وفقد الكثيرون منهم تلك المهنة التي كانوا يعتمدون فيها على قوتهم ورزق أسرهم.. فطرحت هذه المشكلة على اتحاد العمال وشركة بتروفيس وهي شركة تابعة لصندوق المعاشات ووزارة الرعاية الاجتماعية وقد اتفقنا على أن اعادة الحياة للتاكسي لن تتم إلاّ باستيراد عربات تاكسي جديدة تحل محل العربات القديمة لتعاد لها حيويتها.. وبالفعل تم توجيه شركة بتروفيس باستيراد عربات بمواصفات خاصة (دفع خلفي وبنظام الكاربريتر) للعمل كتكاسى في السودان وقد بدأت الاجراءات الأولية في عام 2003م لتحقيق هذا الحلم.

بداية التنفيذ

وفي العام 2004م توجه وفد مع الشركة إلى تركيا واجتمع مع ادارة شركة الفيات العالمية وزار مصنعها في اسطنبول ووقف الوفد على طرق صناعتها وتركيبها وتجميعها واطمأن الوفد على أن المواصفات المطلوبة مطابقة وقد تم الاتفاق حينها مع ادارة المصنع على استجلاب ثلاثة أنواع من هذه العربات وهي (دوفار)، (كارتال) و(شاهين) أنواع مكيفة وغير مكيفة لتتلاءم مع متطلبات سوق التاكسي في السودان…وبالفعل جاء عدد مقدر من هذه العربات وعملت كتاكسي في ولاية الخرطوم ..ولكن عدد العربات المستجلبة كان محدوداً.

الحلول الحالية

حالياً عاد الحل القديم في البروز مجدداً فشكل والى الخرطوم عبد الرحمن الخضر قبل شهر لجنة لإعادة تاكسي الخرطوم في ثوبه الجديد واجتمع مع السيدة اميرة الفاضل وزيرة الشؤون الاجتماعية ولاية الخرطوم …وتم عقد مؤتمر صحفي خرج بقرارات أهمها إرجاع التاكسي إلى عهده الجديد وإعدام التاكسي القديم ..كما قررت اللجنة تسليم التاكسي القديم إلى شركة جياد وعليه يتم إعطاء صاحبه تاكسي بديل عربة اكسنت جياد مقابل دفع اثنين الف جنيه مقدم عبارة عن قيمة الترخيص والتأمين على أن تتكفل ولاية الخرطوم بدفع 17 الف جنيه او 14 الف جنيه على حسب قيمة العربة خصماً من قيمتها الكلية على أن يدفع صاحب العربة المبلغ المتبقي وهو عشرون ألف جنيه ..مرور الخرطوم أكد على سهولة إجراءات الترخيص والتأمين ..على أن يتم الأمر على ثلاث مراحل تبدأ الإجراءات في شهر أكتوبر بالتسجيل عند اتحاد العمال ..المرحلة الأولى لأصحاب التاكسي والثانية للخريجين والثالثة تبديل الركشات والأمجاد بتكاسي وذلك لإعدامها أيضاً حفاظاً على شكل التاكسي في العاصمة الحضارية ..
حاتم دينار :الرائد