جعفر عباس

لصوص لندن وال«مركتي»


[JUSTIFY]
لصوص لندن وال«مركتي»

ما يثير استغرابي إلى يومنا، هذا هو أنه ورغم تفشي عمليات السطو المنزلي وما يتبعها من اعتداءات جسمانية تصل حد قتل من يتصدى للصوص، إلا أن جميع بيوت لندن مصممة بحيث يكون باب المطبخ المطل على الحديقة الخلفية من الزجاج، ثم ظهرت موضة العريشة المسماة كونسيرفاتوري conservatory وهي غرفة متعددة الأغراض ولكنها تكاد تكون زجاجية بالكامل، والأبواب الزجاجية معشوقة لصوص المنازل، وخاصة أنه صار بالإمكان استخدام مادة كيميائية لقطع الزجاج دون طاش كراش، اي دون إحداث ضجة بما يسمح للص بإدخال يده وفتح الباب من الداخل ثم التسلل إلى بقية أنحاء البيت. أما في الشارع فقد تأتيك ضربة أو طعنة من شخص يريد سرقة ساعتك او ما في جيبك، بل قد تحس بمحاولة اعتداء من طرف شاب ما، فتبادر بتقديم ما عندك له: خذ هذه ساعة جوفيال.. بس علي بالطلاق جديدة.. سوري نسيت.. خذ عندي في المحفظة 37 جنيها.. أوووه.. وهاك هذا القلم مطلي بالذهب. فيأخذ منك كل تلك الأشياء ويلقي بها أرضا ثم يطعنك وينصرف، وقد لا ينصرف ويواصل الطعن… وفيها تموت وفيها تفوت على المستشفى.
كان ذهابي إلى لندن للعمل في تلفزيون بي بي سي، ولكن العمل لم يكن من أولوياتي، فما من شيء كان يشغل بالي مثل سلامة أفراد أسرتي، وكلما شلت همهم وما قد يتعرضون له من أذى على ايدي لصوص الشوارع أو المنازل أو العنصريين، تذكرت بيتنا في جزيرة بدين النهرية، حيث لم اسمع طوال عيشي فيها، أو بعد مغادرتي لها إلى وسط السودان عن بيت دخله حرامي في اي ساعة من اليوم، وكان لكل حوش في بدين باب خشبي ضخم، به دائرة تسمح بإدخال اليد لفتح قفل الباب وأنت في الخارج، وكان القفل خشبيا ضخما وطوله قرابة نصف المتر وعرضه نحو قدم، أما مفتاحه فقد كان أيضا من الخشب ومصنوع بنفس فكرة الاقفال الحديدية، ولكن كان بمقدور أي إنسان ان يأتي بأي قطعة خشب ويفتح أجعص قفل باب اي بيت في البلد، وفي هذا دليل على أن أهل بلدتنا لم يكونوا يتخوفون من دخول شخص إلى بيوتهم، بل صمموا أقفال البيوت بحيث يستطيع اي شخص دخول البيوت، وما كان الدخول يحدث إلا لأمر ضروري، واللص باللغة النوبية «مّرْكَتي» وفي لهجة أخرى منها «مَقَس»، وقد نلت ونال غيري لقب مركتي عدة مرات، ولكن بتهمة سرقة تمر كانت تخبئه أمك مثلا أو قطعة حلوى تخص أحد إخوتك، ولكن حرامي بمعنى مرتكب سرقة «حرام» لم تكن واردة في قاموس أهلي، والسرقة الحرام التي كنا نمارسها كانت في مجال البطيخ، فعندنا في شمال السودان يُزرع البطيخ على شطآن النيل بعد انحسار مائه بانتهاء موسم الفيضان، فينمو مع نباتات أخرى مثل اللوبياء والترمس حتى يثمر دون الحاجة إلى ري، لأن الأرض التي ينبت فيها مشبعة بالماء والطمي المغذي، ولو كان صاحب البطيخ من النوع الذي يتفقده بانتظام كنا نسرق من مزرعته بطيخة كبيرة ونهرب بها إلى مكان آمن، أما إذا كان المزارع من النوع الكسول الذي لا يتفقد ما زرعه من بطيخ فقد كنا نمارس سرقة في منتهى الخسة: نقطع البطيخة دون فصلها عن ساقها فإذا جاءت بيضاء تركناها وبطنها مشقوقة، وجربنا حظنا مع أخرى إلى أن نجد بطيخة عليها القيمة. ولكن حتى لو قفشونا لم يكونوا يعتبروننا لصوصا بل يعدونها شقاوة عيال وقد ينال بعضنا بضع ضربات من أهله وقد يكفي التقريع.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]