تحقيقات وتقارير

المسيرية… خارج القانون..!!


مفرطاً في التفاؤل، وغير قريب من الواقع بحال، يبدو الآن اتفاق حسم نزاع أبيي الذي وقعته الحكومة مع الحركة الشعبية قبل أكثر من خمس سنوات بضاحية نيفاشا الكينية، فالمبدأ الأول في ذلك الإتفاق الذي حاز على الكثير من المديح وصار يعرف فيما بعد ببروتوكول أبيي ينص، أو يتمنى بالأحرى أن تكون أبيي هي جسر التواصل بين الشمال والجنوب وتربط شعب السودان، ما حدث لاحقاً على أرض الواقع، كان إشتداد النزاع حول المنطقة الغنية بالنفط، والإختلاف حول تقرير الخبراء الأجانب حول حدود المنطقة، وبلغت المواجهات فى المنطقة مرحلة دموية أواسط 2008م، قبل أن يحال الملف إلى محكمة تحكيم دولية، رسمت حدود منطقة أبيي، أو منطقة مشيخات دينكا نقوك التسع التي ضمت لكردفان في العام 1905م، حكم مد حدود أبيي لتشمل مناطق أكبر شمالاً، لكنه إقتطع منها مناطق واسعة في الشرق والغرب، ما دفع البعض لتفسير الحكم على ان الحكومة أنتصرت، وفازت بآبار النفط غربي أبيي، والتي تعتبر وفق قرار المحكمة غير تابعة لأبيي، أي تابعة لكردفان، ويتبع مجمل نفطها بالتالي للشمال.
وطريقة التفكير التقليدية في قضية أبيي، كانت تضع المسيرية، سكان المنطقة، في خانة الحكومة، أو المؤتمر الوطني بالتحديد، وعلى الرغم من أن الحكومة احتفلت على طريقتها بقرار محمكة لاهاي ومدحته، إلا أن البعض هنا وهناك كان يتحدث عن أن المسيرية فقدوا مساحات واسعة من مراعيهم لم يكونوا يعتبرونها ضمن أبيي، زج بها قرار التحكيم داخل المنطقة المتنازع عليها.
قانون إستفتاء أبيي الذي أجازه البرلمان نهاية الأسبوع الماضي، زاد من مساحة الفجوة بين المسيرية والمؤتمر الوطني، وجعلها أكثر وضوحاً، فإحتجاجات بعض قيادات وبطون قبيلة المسيرية القوية ضد قرار التحكيم تم إحتواؤها بين السلطة ونظار القبيلة وأعيانها، لكن ذات هؤلاء القادة القبليين الذين ساعدوا على لملمة قضية التحكيم، يبدو أنهم أشد المعارضين الآن للقانون الذي أجازه البرلمان، إذ إنسحب نواب المسيرية في مختلف الأحزاب من جلسة إجازة القانون، بعد رفضهم للمادة «24» التي تعرف سكان أبيي، ووصف الفريق مهدي بابو نمر ابن ناظر القبيلة المادة بأنها القشة التي قصمت ظهر البعير، وحمل الوطني مسئولية إجازته وتبعاتها.
الدرديري محمد أحمد، مسئول ملف أبيي في الوطني، ووكيل حكومة السودان لدى هيئة التحكيم التي نظرت القضية، والمحامي الذي وصفه غريمه السياسي وابن أبيي القيادي بالحركة الشعبية دينق ألور بأنه قد خدع المسيرية، عارض القانون من داخل البرلمان ولم ينسحب مع بقية نواب المسيرية على الرغم من رفض مقترحاته التي تقدم بها لتعديل القانون، ويرى الدرديري أن القانون لم ينقل ما جاء في بروتوكول أبيي بدقة، وحاول التصرف فيه بما قد يفهم منه أن معايير الإقامة التي سوف تضعها المفوضية قاصرة فقط على السودانيين الآخرين، وأن الدينكا نقوك مستثنون منها مما يفتح الباب واسعاً لإحتمالاتٍ كثيرة وخطيرة. فهو نص قد يتوسع في منح الدينكا حقاً لم يمنحه لهم البروتوكول أو الدستور على الرغم من أنه لايمكن أن ينتقص من حق المسيرية في التصويت.
صياغة الفقرة (24) من قانون إستفتاء أبيي يصفها بعض قيادات المسيرية بالخبيثة، خبث مبعثه شكوك أثارها التعديل الذي أدخله القانون على تعريف بروتوكول أبيي وإتفاقية نيفاشا لسكان المنطقة، ففيما ينص البروتوكول في الفقرة الأولي من المبدأ السادس على أن يكون سكان منطقة أبيي هم (أ) أعضاء مجتمع دينكا نقوك والسودانيون الآخرون المقيمون في المنطقة. (ب) تضع لجنة لإستفتاء أبيي معايير الإقامة في المنطقة. وورد ذات المعني في المادة (24) من القانون المثير للجدل ولكن بعد أن طاله تحريف يرى البعض أنه جوهري ونجم عن إعادة صياغة قصدية، إذ تنص المادة (24) التي يرفضها المسيرية في القانون على: يشترط في الناخب أن يكون من سكان منطقة أبيي حسب المادة (6-1) من بروتوكول أبيي(المادة أعلاه)، وهم: 1/ أعضاء مجتمع دينكا نقوك. 2/ السودانيون الآخرون المقيمون في منطقة أبيي حسب معايير الإقامة التي تحددها المفوضية.
فصل عبارة (السودانيون الآخرون) عن عبارة أعضاء مجتمع دينكا نقوك، رغم أنهما وردتا مقترنتين ببعضهما في إتفاقية نيفاشا، وإلصاق عبارة: حسب معايير الإقامة التي تحددها المفوضية بعبارة -السودانيون الآخرون- (المسيرية)، يرى فيها عبد الرسول النور القيادي المسيري بحزب الأمة وابن منطقة أبيي محاولة خبيثة لمصادرة حقوق المسيرية وفتح الباب أمام كل من يزعم أنه من دينكا نقوك للتصويت دون الحاجة إلى معايير إقامة، ولو كان مقيماً في كندا أو أستراليا أو أمريكا أو جوبا أو (الواق الواق) كما يضيف النور بانفعال، في وقت تفرض فيه المادة على المسيرية معايير إقامة لم تفرضها على دينكا نقوك.
المادة (183) من دستور السودان الإنتقالي، والتي خصصت لأبيي، تختلف عن القانون الذي أجازه البرلمان في أنها لم تحدد سكان المنطقة الذين يحق لهم التصويت على أساس قبلي، لكنها اكتفت بالإشارة إليهم في فقرتها الثالثة على النحو التالي: يدلى سكان منطقة أبيي بأصواتهم في إستفتاء منفصل يتزامن مع إستفتاء جنوب السودان، فيما أشارت الفقرة الأولى من تلك المادة الدستورية إلى أن منطقة أبيي ينطبق عليها بروتوكول حل النزاع المبرم بشأنها، وهو الأمر الذي يبدو أن واضعي القانون عملوا به، لكن بقليل من التعديل، تعديل لم يلاحظه بسهولة ويفهم مغزاه ومغزى إحتجاجات المسيرية كثير من المراقبين والمتابعين، لكنه سرعان ما يبدو للعيان لدى مراجعة أية نسخة معتمدة من بروتوكول أبيي، وإتفاقية نيفاشا، والدستور الإنتقالي.
الشريكان، الوطني والحركة، إلتزما نوعاً من الهدوء المثير للتساؤل إزاء موجة إحتجاجات المسيرية على إجازة القانون، وقال ياسر عرمان القيادي بالحركة أن الشريكين تعمدا المحافظة على غموض القانون وترك الأمر لمفوضية إستفتاء أبيي، موقف الشريكين ذاك، دفع البعض إلى عدم إستبعاد أن يكون قانون إستفتاء أبيي ملحقاً في واقع الأمر بأخيه الأكبر قانون إستفتاء الجنوب، كجزء من صفقة سياسية كبيرة بين الشريكين شملت قانون الأمن الوطني الذي أخذت إعتراضات الحركة الشعبية الواهنة ضده تختفي رويداً رويداً.
ما الذي يمكن أن يفعله المسيرية غير الإحتجاج ورفض القانون، كثيراً ما أحتج المسيرية في السابق على وقائع عديدة، كان أبرزها المعارك الدموية التي نشبت بينهم والجيش الشعبي في المنطقة، وكان عبد الرحمن الأنصاري رئيس جبهة تحرير أبيي يقول حينها إن المسيرية باتوا بلا ظهر، وأن الوطني تخلى عنهم، ويقول عبد الرسول النور إن الإستفتاء لن يجري في أبيي دون إعادة النظر في هذا القانون، حديث يمكن أن يشتم منه المرء بسهولة رائحة التهديد، تهديد يدفع للتساؤل، هل سيبقى المسيرية في رفضهم لقانون إستفتاء أبيي -الذي أسقط الإشارة إليهم صراحة- داخل حدود القانون، أم أنهم قد يمضون بعيداً خارجه .
صحيفة الرأي العام : مجاهد بشير