مقالات متنوعة

دعوة لتكوين الهيئة السودانية للمراجعة الداخلية


في فاتحة أعمال الدورة الحالية للبرلمان السوداني دعا الرئيس عمر البشير لتقييم منظومة القوانين والتشريعات المالية ومدى كفايتها لتنظيم الأداء العام للدولة، مما يشي بالإهتمام الرسمي بضبط ورقابة المال العام وهو مما يستلزم بالضرورة إرادة سياسية عليا تسهم بصورة فاعلة في تشريع وإقرار وتنفيذ قوانين ولوائح صارمة لمراقبة تصرفات مراكز المسئولية المعنية بالموارد المادية المتاحة واستغلالها بكفاءة.
وتأتي وسائل الرقابة المالية عموماً في مقدمة آليات ضبط المال العام، ولذلك فسيادة القوانين الحاكمة للمال العام والمعاملات الحكومية هي أول مدارج المؤسسية التي تنبني عليها سياسات الحكم الرشيد وما يليه من الإستخدام الأمثل للموارد.
وتستحوذ قضايا إدارة المال العام والرقابة عليه قدراً ليس باليسير من إهتمام الناس، إذْ إنّ الاستخدام الكفء للموارد المتاحة هو طرف الرَّحي المقابل إزاء الحاجيات الإنسانية المتزايدة التي تعمل على تخفيف وطأة المشكلة الإقتصادية بكل ظلالها المجتمعية التي تنعكس على رفاهية وحياة المجتمعات وبالتالي على سلوك الأفراد وأخلاقياتهم وممارساتهم.
وطالما افتقرتْ الرقابة المالية لآلياتها المأمولة في جودة إدارة المال العام تُصبح مثار جدل بطبيعة الحال في جدواها إبتداءً، وتقع فريسة لتغييب الشفافية والفساد بدلاً عن الإضطلاع بدورها الذي أقرَّته اللوائح المالية والإدارية الحاكمة للمعاملات في المنظومة الرسمية. والرقابة المالية إحدي أركان الدولة الحديثة وتختص بمراقبة التصرُّفات في الموارد والنفقات العامة، وهي أداة لا يستهان بها في توفير ثقة بين مكونات المجتمعات تجعل الدولة تعمل على تنفيذ خططها التي تدعمها في ترسيخ إستقرارها الإقتصادي والذي هو نقطة إنطلاق للإستقرار السياسي والإستقرار الإجتماعي، وفي غياب الإستقرار الإقتصادي تهتز بدرجة عالية مستويات الإستقرار السياسي والإجتماعي كما هو مُشاهد في كثير من دول العالم.
وتُعتبر الرقابة الداخلية الإطار الأشمل أما نظام الضبط الداخلي فيمثل جزئية من جزئيات الرقابة الداخلية ويسعي نظام الضبط الداخلي لضبط العمليات داخل المؤسسة من خلال الهيكل الإداري بحيث يضطلع كل موظف بتنفيذ عملية بعينها وتتكامل المهام تراتبياً بحيث يكون عمل كل موظف قي أسفل الهرم مكمِّل لأعلى الهرم وبالتالي خاضع لمراجعته. والمراجعة الداخلية تمثل هنا ركيزة أساسية في انظمة الضبط الداخلي والرقابة ككل.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه لا يمكن بأية حال إغفال العلاقة التكاملية بين المحاسبة والمراجعة عموماً، بالرغم من السمات المميزة لكل منهما عن الأخرى، فالمحاسبة تختص بتجميع وتصنيف وتلخيص البيانات وعرضها لمستخدميها على إختلاف مراميهم وتوجهاتهم، أما المراجعة فتمتاز بالطابع الإنتقادي التحليلي لمجريات العمليات المحاسبية. ولذلك فضرورة وجود المراجعة الداخلية ليست محل جدال في إثبات دقة هذه البيانات المحاسبية.
وتتخذ المراجعة الداخلية موقعاً صدارياً في دائرة مجموعة إجراءات الرقابة الداخلية كما تُشير منهجيات الرقابة المالية، فبعد وضع أنظمة الرقابة الداخلية وإجراءاتها اللازمة في ذلك لا بد من وجود آلية فعَّالة لتقييم هذه الأنظمة ومدى كفاءتها في تحقيق أهدافها عن طريق إختبارات جودة التنفيذ وفقاً لما هو وارد بالقوانين واللوائح والمنشورات وهو لحمة وسداة وظيفة المراجعة الداخلية وهي كذلك المعنية بتحقيق الرقابة الفاعلة، ومن جانبه يهتم المراجع بمدي كفاءة إستخدام الرقابة الداخلية نفسها في منع حدوث اخطاء جوهرية أو تدليس في القوائم المالية واكتشافها في حينها.
والمراجعة الداخلية كواحدة من أساليب الرقابة المالية تسعي لإحكام السيطرة على موارد الدولة وتوجيهها وتشغيلها من منطلقات قانونية ولائحية وليس من منطلقات تقديرية قد تفتح المجال لإهدار الموارد.
ولا تكتسب التقارير المالية عموماً ثقة مستخدميها إلا بعد تدقيقها حيث يتم التأكيد على عدالتها ونزاهتها من حيث اتباع القوانين واللوائح المنظمة للعمل المالي. ولذلك تلعب المراجعة الداخلية في إطارها الرسمي دوراً كبيراً في مراقبة المال العام وتحصيله وإنفاقه كما تقضي بذلك اللوائح والقوانين.
وقد أقرت القوانين المنظمة لسلطات وصلاحيات المراجعة الداخلية في إنجاز مهامها بالإضطلاع بدور الرقابة وإعداد تقارير الأخطاء والمخالفات،[قانون المراجعة الداخلية لولاية الجزيرة (2007م)].
كما أوردت لائحة المراجعة الداخلية لأجهزة الدولة (1997م):المراجعة الداخلية يُقصد بها جميع الإجراءات وأساليب العمل المهني في إطار الرقابة المالية ورقابة الأداء المستخدمة والمتبعة بواسطة إدارة المراجعة الداخلية.
وجاء كذلك في قانون المراجعة الداخلية لأجهزة الدولة القومية (2010م): ” المراجعة الداخلية يقصد بها وظيفة تخصصية ، تقوم بنشاط تقييمى مستقل ، يهدف الى فحص ومراجعة التصرفات المالية والمحاسبية والإدارية داخل الوحدة.
وكذلك نقرأ في قانون الرقابة المالية والمراجعة الداخلية بولاية الجزيرة (2007م):يُقصد بها جميع الإجراءات وأساليب العمل المهني في إطار الرقابة المالية ورقابة الأداء المستخدمة والمتبعة بواسطة إدارة المراجعة.
والملاحظ بوضوح إقتران الرقابة المالية بالمراجعة الداخلية في الكثير من القوانين واللوائح المنظمة للعمليات المالية والمحاسبية وهذا ينبع من أهمية المراجعة الداخلية في تنفيذ الرقابة المالية على أنشطة الدولة بصفة ملازمة لكل مجريات العمليات المالية والإدارية وليست مرة واحدة في السنة.
وعلى الرغم من أن المراجعة الداخلية في السودان كانت تُمارَس كوظيفة داخل التنظيمات المختلفة حيث ظهرت في أعقاب السودنة في مصلحة السكة حديد ثم تلتها إدارة مشروع الجزيرة وبعض مجالس الحكم المحلي كوحدات إلا أنها كانت تابعة لديوان الحسابات وكانت ترفع تقاريرها للمدير المالي في الوحدة المعنية. ولم تكن المراجعة الداخلية حينها تتخذ شكل الوظيفة بمنهجياتها وسلطاتها واختصاصاتها وأهدافها ومعاييرها التي تشكّلت فيما بعد علي النحو الذي يبدو الآن، فالمراجعة الداخلية كانت مهنة ترتبط في السابق بالمحاسبة فقط لكنها أضحت الآن أكثر إرتباطاً بالإدارة.
تاريخياً كان إنشاء معهد المراجعين الداخليين (The Institute of Internal Auditors) بالولايات المتحدة الأمريكية هو بداية الإهتمام المهني والأكاديمي للمراجعة الداخلية في العام 1941م وقد عمل المعهد على تطوير منهجيات المراجعة الداخلية وتطوير هيكل لحدود المهنة وكذلك إعداد دليل لأخلاقيات وآداب مهنة المراجعة الداخلية ووضع البرامج اللازمة للتدريب والتأهيل المستمر، ثم توالت المعاهد والجمعيات الدولية والإقليمية التي تهتم بالمراجعة الداخلية.فالمراجعة الداخلية أضحت وظيفة عالمية واضحة المعالم والإختصاصات ولم تعُد محض جسم هلامي مشوش التبعية والمهام كما كانت إلى وقت قريب.
وقياساً على ذلك ومن واقع مهنة المراجعة الداخلية في السودان التي لا تزال حتى لحظة كتابة هذه السطور بلا إطار رسمي لمسمي الوظيفة بتعريفها المعياري الدقيق ومهامها المنصوص عليها علميَّاًّ وعمليَّاً ربما هذا المقال معني بشئ من الإيجاز لافتراع مبادرة لتكوين الهيئة السودانية للمراجعة الداخلية لرعاية المهنة وصياغة وإقرار مجموعة المعايير والقواعد التي تتناسب مع البيئة المحلية بما يواكب الواقع العملي الإقليمي والدولي في الممارسة المهنية، هيئة تتكون من مهنيين وأكاديميين تختص بالمراجعة الداخلية وتقويتها قانوناً وتحمي المهنة وممارسيها من خلال تطبيق المعايير المتفق عليها فنياً ومنهجياً ومراعاة أخلاقيات وآداب المهنة وخلق رابط هيكلي مهني وأكاديمي للممارسين للمهنة.

بقلم/ محمد قسم الله محمد إبراهيم
[email]Khaldania@yahoo.com[/email]