د.عبد الوهاب الأفندي

أساطير ثورة أكتوبر وجدلية التسليم والتسلم


[JUSTIFY]
أساطير ثورة أكتوبر وجدلية التسليم والتسلم

تكتب أساطير الثورات بعد نجاحها، لأن أحداثها لا تكتسب المعنى إلا بعد ذلك النجاح. وقد كتب الكثير حول عوامل نجاح الثورات، ولكن مفهوم «الثورة» نفسه مثقل بدلالات تؤثر في «الثوار» ومن يتولى التأريخ. مثلاً نجد أحداث «ثورة أكتوبر» بدأت في أيلول/سبتمبر، بينما سقط النظام نهائياً في تشرين الثاني/نوفمبر. وكان المدخل إلى اندلاع الاحتجاجات تسمية الحكومة في صيف عام 1964 لجنة لإعادة النظر في سياسة النظام تجاه ازمة الجنوب، ورفعت مؤقتاً الحظر على حريات التداول حتى تسمح بالاستماع إلى كل الآراء بحرية. ولكن عندما عقدت أول ندوة في التاسع من سبتمبر عام 1964، ولخص فيها د. حسن الترابي المشكلة بأنها مشكلة دستورية أساسها وجود نظام دكتاتوري، قرر النظام حظر كل الندوات. وكانت هذه بداية سلسة الصدامات مع طلاب الجامعة وبقية الفئات، تصاعدت بعد مقتل طالبين في جامعة الخرطوم أثناء قيام الشرطة بفض ندوة دعا لها اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في 21 أكتوبر.
وهذا يقودنا إلى نقطة مهمة حول طبيعة النظام وفهمه لموقعه من الخارطة السودانية. فقد كان النظام كما أسلفنا نظاماً «أبوياً» فرض نفسه وصياً على الشعب بدعوى أن الشعب لا يعرف مصلحته وينتخب سياسيين متشاكسين لم يكونوا قادرين على اتخاذ القرارات الحاسمة أو الحفاظ على المصلحة العامة. وبهذا المنطق، لم يكن في حاجة لاستفتاء الشعب حول ما يجب عمله. ولكنه فيما يتعلق بقضية الجنوب، فإن النظام كان هو الذي بدأ تصعيد الحرب. فبخلاف ما هو سائد فإن تمرد الفرقة الاستوائية عام 1955، لم يكن بداية حرب الجنوب، لأنه كان محدود النطاق وتم القضاء عليه بصورة كاملة خلال أسابيع. ولم تبق سوى قلة من الجنود الهاربين لجأ كثير منهم إلى دول مجاورة أو هاموا على وجوههم في الغابات. ولم تبدأ الحرب حقيقة إلا مع تشكيل حركة الأنيانيا الانفصالية في عام 1963. وكان أهم ما أشعل التمرد قرار الحكومة قراراً في عام 1962 بطرد الإرساليات المسيحية التي كانت تدير معظم مدارس الجنوب وتقدم الخدمات الصحية. وكان تصعيد الحرب هو ما دفع النظام إلى طلب «النصيحة» من الشعب.
وتعكس هذه المعضلة (استبداد النظام من دون الناس ثم طلب رأيهم حول أزمة كان هو المسؤول عن خلقها) اعتقاد النظام بأن الرأي العام (في شمال السودان) سيكون منحازاً لموقفه، أو لن يكون عابئاً بما يحدث في الجنوب. وفي نفس الوقت كان النظام يريد أن يتنصل من المسؤولية حول القرارات المطلوب اتخاذها بإحالة الأمر إلى «رأي الشعب». ولكنه فوجئ بالمواقف التي حملته المسؤولية وطرحت وجود النظام على أنه أساس الازمة.
وكما أسلفنا فإن النظام العسكري كان امتداداً لأفكار وتيارات النخبة السياسية السودانية. ولم يكن سراً أن رئيس الوزراء عن حزب الأمة وقتها، عبدالله خليل، وهو ضابط سابق في الجيش، كان من دعا الجيش لتسلم السلطة في السابع عشر من نوفمبر 1958 (حيث صادف أمس الاثنين الذكرى السادسة والخمسين لذلك الانقلاب) لمنع عقد البرلمان في ذلك اليوم. وقد كان خليل يخشى قيام تحالف جديد بين جناح في حزب الأمة يقوده الصديق عبدالرحمن المهدي وزعيم المعارضة إسماعيل الأزهري يؤدي إلى إسقاط حكومته وقيام حكومة جديدة مدعومة من مصر. وكان من المدهش أن «السيدين» عبدالرحمن المهدي وعلي الميرغني، راعيي الحزبين المتحالفين في الحكومة أصدرا بيان ترحيب بالنظام العسكري الذي أسقط حكومتهما!
ويعكس هذا أن خلافات النخبة كانت تدور كلها في إطار توافق ليبرالي وفي غياب خلافات جذرية في الرؤى والتوجهات، خاصة بعد انتهاء الخلاف الرئيس حول العلاقات مع مصر وبريطانيا عملياً مع الاستقلال. كذلك كان حجم النخبة الصغير نسبياً، تشكلت من مجموعة صغيرة من الحائزين على التعليم الحديث. وترتبط هذه النخبة بعلاقات وثيقة من الزمالة الدراسية والصداقات والروابط الأسرية أو السكنية، جعلت الصلات بينها قوية حتى في حال الخلاف السياسي.
لكل هذا فلا بد للنظر إلى ثورة أكتوبر على خلفية هذا التجانس النخبوي وتقارب الرؤى والأفكار وصغر حجم النخبة. وكانت معظم طوائف هذه النخبة قد قبلت الحكم العسكري كحل مؤقت لخلافاتها، حيث رفع عنها الكثير من الحرج باتخاذ قرارات مثل قبول المعونة الأمريكية والسد العالي وتقاسم مياه النيل مع مصر. وقد شهد العهد العسكري في أول سنواته ازدهاراً اقتصادياً ونجاح في مد خطوط السكك الحديد إلى غرب وجنوب السودان، وتوسيع مشروع الجزيرة وشق طرق جديدة وبناء سدي الروصيرص وخشم القربة وعدد من مصانع السكر. خارجياً وثق النظام علاقاته مع الدول العربية والافريقية، وتقرب جداً من الولايات المتحدة والغرب. ولكنه في نفس الوقت وثق علاقاته مع الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا واعترف بالصين الشعبية. ولم يحدث في أي وقت من تاريخ السودان لا قبل ذلك ولا بعده أن زار السودان هذا العدد من كبار الزعماء من الاتحاد والولايات المتحدة ومصر وغيرها.
إضافة إلى ذلك فإن بعض القوى السياسية تحالفت عملياً مع النظام، خاصة حزب الشعب الديمقراطي الذي أعلن بصورة غير مباشرة دعمه للنظام، ونأى بنفسه عن باقي قوى المعارضة، كما أن الحزب الشيوعي أعلن في عام 1963 مشاركته في انتخابات «المجلس المركزي» (البرلمان) الذي اقترحه النظام.
لكل هذا فإنه حين اندلعت الاحتجاجات في أكتوبر عام 1964 على خلفية مقتل الطالب أحمد القرشي، وهي احتجاجات فاجأت حتى المعارضة، فإن آليات التواصل بين أطراف النخبة لم تنقطع. على سبيل المثال، نجد في مذكرات عدد من سياسيي تلك المرحلة معلومات عن اتصالات بين المعارضين وبعض كبار ضباط الجيش بحكم علاقات القرابة او الصداقة، كما أن لقاءات عقدت في بعض منازل كبار السياسيين أو رموز النظام جمعت العديد من الأطراف.
وقد كانت العاصمة السودانية في ذلك الوقت أبعد ما تكون عن أي شبهة «ثورة معلومات» وأقرب ما تكون إلى قرية صغيرة. فحتى استخدام الهاتف كان محدوداً، وإنما كانت عدة التواصل الجماهيري الأساس هي المنشورات، إضافة إلى التواصل الشخصي المباشر من خلال مركزين محوريين، هما قبة الإمام المهدي في أم درمان حيث تجمع قادة الأحزاب، ونادي أساتذة جامعة الخرطوم، حيث تجمهرت القيادات النقابية والمدنية.
في هذا الجو الحميمي الأقرب إلى الاسترخاء منه إلى الانفجار، وعلى خلفية الاحتجاجات الطلابية التي توسعت بسرعة لتجذب قطاعات شعبية أخرى وتنتشر إلى عدد من مدن السودان، جرت المفاوضات التي أدت إلى تسليم وتسلم للسلطة في نوفمبر 1964 كما سلمت من قبل في نوفمبر 1957.
ولا يقدح هذا شيئاً في قيمة ثورة أكتوبر وسبقها التاريخي ليس فقط في المنطقة، بل في العالم. ولكن من الخطأ تصوير الأمر بأنه كان انتصاراً ل «ثورة» راديكالية غيرت الخارطة السودانية، وأسقطت نظاماً عسكرياً وحشياً لصالح عهد ثوري. بل كان الأمر تطوراً طبيعياً في إطار تفاهمات وتنافس نخبة صغيرة تتشارك في الرؤى والمصالح. وقد قوض النظام العسكري نفسه بنجاحاته كما فعل بفشله. فقد أدى التوسع الاقتصادي والتعليمي إلى توسيع الطبقة الوسطى وزيادة أعداد العمال والطلاب وزيادة التطلعات. في نفس الوقت أدى الفشل في الجنوب وما صاحب قرارات تهجير سكان منطقة حلفا بسبب بناء السد العالي إلى توتير الأجواء وخلق معارضة قوية للنظام.
من هنا فإن عظمة الثورة تنبثق أساساً من بعدها عن الراديكالية، كما أن الأساطير التي نسجت في أثناء الثورة وما بعدها عن راديكالية مزعومة أدت بدورها إلى ممارسات قوضت مكتسبات الثورة أولاً، ثم استخدمت شعاراتها لخلق ما هو نقيض لها. نفس تلك الأساطير يروج لها اليوم في إطار قد يؤدي إلى كوارث جديدة، لأن هذه الأساطير تهمل التوافق الذي كان أساس نجاح الثورة، وتفتعل استقطابات ستؤدي بالقطع إلى سيناريوهات لا علاقة لها بذلك الانتقال التوافقي السلمي للسلطة الذي كان ثورياً تحديداً لأنه لم يكن «ثورياً» رغم توسل البعض تسمية «ثورة أكتوبر» البلشفية (وهي بدورها وقعت في نوفمبر).
[/JUSTIFY]

د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[email]awahab40@hotmail.com[/email]


تعليق واحد

  1. هل يعقل يا دكتور ان كل حكومه مركزيه تقارب ان تحسم مشكله الجنوب تأتي (ثورة) وتسقطها