الصادق الرزيقي

ما علينا..الفات كلو فارق ..!


[JUSTIFY](أ)
بقايا قافلة من سراب الذكريات، تكاد تختفي وراء السحب البعيدة، للزمن الماضي الذي هو على الماء نقوش، كما غنى وردي للفيتوري، ولكن أوتاد الشجن التي تشد خيمة هذه الذكرى.. لا ترحل في مواكب وقوافل السراب الذي يسلِّمها لسراب آخر ..!
بأقدامها العارية.. تمشي شمس الظهيرة في طرقات مدينة الفاشر في سبعينيات القرن الماضي، حين تتعامد الشمس على نافوخ المدينة، الأسواق في ضجيجها، واللواري في هديرها وعجاجها، وقهوة البنابر في شبيبتها الزاهرة، وبئر (حجر قدو) تحفُّها مجموعة من حمير السقَّايين وجلبتهم العالية وضجيج صفائح الماء الفارغة المتضاربة، وعلى ظهر كل حمار (خُرُج) ماء (يجلبق) بما فيه، وعجوز في نهايات خريف العمر تحلف بعلي دينار، ولا تثنيها اعتراضات شيخ سلفي مُهيب يدعوها في حنق ألا تحلف إلا بالله.. وشلال البرتقال أب صُرة المنسال كما الماء الهميم من أعالي الجبل تنهمر في جنبات السوق عند الباعة الذين يعرضون الخضر والفاكهة على الأرض، ويكوِّمون البرتقال على أشكال هرمية وكذا الطماطم والليمون والجوافة والتِّبِش..
مثلما تشهق الآمال الصغيرة في جوف العيون الساهمة.. المدينة آمنة مطمئة لا تعرف لعلعة الرصاص ولا لغة التخاصم ولا لوثة القبلية التي دهمتها كجائحة مثل الطاعون..
في زحام السوق إلحاحات الباعة والمشترين، كان تلتمع من بعيد سارية علم عتيقة..من هناك.. تشمخ في فضاء وسماء مدرسة الفاشر الأهلية المتوسطة، المعلم الأكثر بهاءً بالمدينة في ذلك الوقت النضير.. يتسامق من أعلى السارية وكأنها تشرئب بعنق طويل ذي أقراط نحو سماء بعيدة، علم البلاد..كأنه يلامس قرن الشمس في عليائها، مفاخراً بأنه في قلعة للعلم وهي في كبريائها.. ولم تنكسف تلك الصورة من أوساط السنوات السبعين من القرن الماضي.. في تلك البقعة من الفاشر حتي بعد أن هرم الزمان وشابت المدينة وغطى الأفق صهيل خيل السراب الراحلة..
(ب)
كلما كفن كل منا أوراق عمره بآهاته الحرى، ووسَّد التراب بعض ذكرياته العزيزة، وجلس يرثي عمره المتسرِّب كخيط من دخان.. يتأبى على الرحيل، وتمانع أن تذوب شمعة مضيئة من تلك اللحظات النابضة في أغوار الوجدان.
هكذا بدأ صديقنا (حافظ عمر ألفا) يكرِّع من أقداح ذكرياته، توامضت أمامه السنوات كأنها قطع من بلور متناثرة على خميلة، أو كما قال ترزي خامل الذكر في المدينة،
( سنوات العمر الزاهية ممتلئة باللعمان مثل حبات الترتر في فساتين نساء السبعينات … )
جلس حافظ.. وعيناه تغوصان في الافق البعيد .. وقال:
«نحن من زمن أروع ما كان فيه هو المدارس.. وأنبل ما فيه المعلمون ..» ثم أردف وهو ممتلئ بشجن غريب ..«هل أتاك حديث مدرسة الفاشر الأهلية ….؟»..!
وتدفق امامه شلال نور، من صور ومشاهد طازجة، وإنفتح ستار.. وفُض غلاف فضي وضيء، على مشهد تلك السنوات من بين 1976 -1979 م ..
(ت)
قال حافظ كأنه صوفي يتعبد في محراب.. شابكاً يديه ووضعهما تحت ذقنه، ترفرف فوقه نجيمات زرقاوات يتراقصن بأجنحتهن الخفاقة وتتطاير ضفائرهن في مسرى تلك الذكريات وهي تعابث كل ريح أتت من اللازمان واللامكان.
قال :«دخلنا مدرسة الفاشر الأهلية عام 1976م، وكانت المرحلة الدراسية تسمى الثانوي العام، المدرسة عريقة قديمة قِدم التاريخ ، عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1945، وصمتت المدافع، كان ثلة من وجهاء المدينة وكرام المواطنين يجتمعون لبناء أول مدرسة بعد الاولية في الفاشر وبعد المعهد العلمي، من حر مالهم.. وصلتهم يومها تبرعات ودعم(700 ) من مؤتمر الخريجين العام الاب الشرعي للحركة الوطنية ضد المستعمر الإنجليزي..وتبرع من تجار المدينة ووجهائها كلٌ من بابكر كرم الله شيخ سوق الفاشر وعلي كاكوم وعبدالقادر اب سم وعوض دفع الله والتجاني محمدي احمد وغيرهم خلقٌ كثير من أهل المدينة، وقدم توفيق توتنجي وقرقوري مماكوس وبتي مرشيل وحبيب شاشاي وهم من الشوام والأغاريق من سكان المدينة تبرعاتهم .
وشعر بالخجل المستر أنجلسون وزوجته من الإدارة الاستعمارية وتبرعوا من دخلهم الشخصي.. فأنشئت هذه المدرسة التي بنيت على النمط الإنجليزي القديم وهو خليط من الطراز الفيكتوري العريق مطعَّماً برؤية هندسية تناسب البيئة والمناخ في السودان، سقف عالٍ مخروطي الشكل من الزنك وحيطان من الطوب سميكة، وأعمدة في الممرات والفراندات وأبواب ونوافذ من الزجاج بإطارات حديدية متينة ومغاليق ومزلاجات وأقفال فولاذية قوية، تتكون المدرسة من مبنى للفصول ومكاتب على شكل حرف (ال) الانجليزي تفتح على ميدان الطابور الذي تتوسطه منصة عالية تنتصب فيها سارية.. وعلى الجانبين المعمل ومخزن الكتب ومواقع أزيار وجرار الماء.. وتطل المدرسة بأبوابها على سوق الفاشر حيث النساء يبعن الخضر والفول السوداني المقلي والمركب والدوم والتبش والفول ابو انقوي والهالوك والبامبي والبطاطس المسلوقة والجقجق والتسالي والعنكوليب وغيرها من التفاتيف .. وما أجمل تفاتيف الخريف..
(ث)
يقول حافظ.. وهنا مربط الفرس..
«عندما كنا نسابق للمدرسة صباحاً ونحن في عجلة من أمرنا، تسبقنا لهفتنا ولهاثنا، نرتدي القمصان البيضاء وأردية الكاكي الخضراء القصيرة، تبدو المدرسة مثل مغنطيس ضخم يجذب تلك اللحظة التلاميذ من كل اتجاه حتي يتجمعوا ويحشروا في ساحة الطابور.. وكان لي قميص من الكتان الأبيض اشتراه لي شقيقي الأكبر (حبيب عمر) الذي يعمل مدرساً بنفس المدرسة، والآن موجهاً بمدارس الصداقة السودانية التشادية في مدينة أبشي بالجارة تشاد، اشترى لي القميص من محلات سلوى بوتيك على ياقته بالداخل شعار الشركة وهو عبارة عن حصانين ذهبيين، بينما لمعت في يدي ساعة (سيكو فايف) جديدة ولا ينافسني في لبس الساعات إلا ثلاث طلاب فقط يمتلكون ساعات يد من ماركة اب سمكات وجوفيال وريكو..
عندما نصطف في الطابور صفين متوازيين لكل فصل وتهدأ تهارج ومشاغبات التلاميذ، وكنت (ألفة) الطابور أتميز بصرامة تصنَّعتُها للمهمة الخطيرة، يقف المعلمون في مكان بارز ويتقدم أستاذ الطابور اليومي ويقف بجانبي وتوزع الخطابات الواردة بالبريد وهي تحمل الطوابع البريدية العجيبة.. وفجأة وكل يوم يتغير المشهد كله وكأن خفقان القلوب يتوقف أو الزمن كله يتوقف.. عندما يطل في مصطبة مكتبه عبر الممر القصير ويقف في مواجهة الطابور.. وكأنه إمبراطور من عصر سحيق، الأستاذ الكبير أحمد محمد الخاتم مدير المدرسة في تلك السنوات.. ونظن أن الدنيا كلها ترهف السمع وكل أُذن تصيغي، حتي حفيف الأشجار يسكن.. وتختفي في مسمع ذلك المشهد الأصوات القادمة من (لب) السوق.. ويتلاشى نهيق الحمير المتزاحمة حول بئر حجر قدو ..!
(ج)
ويواصل حافظ ..
«الأستاذ احمد محمد الخاتم عثمان أب شنب.. في متوسط العمر يومذاك، وهو من قدامى معلمي المدارس المتوسطة، من أهالي ام درمان ينتمي لقبيلة الكواهلة المعروفة. لم يكن بائن الطول..أميل إلى القصر، له قامة ممتلئة فهو ذو جسم رياضي متماسك ، له شارب كث يغطي فمه ولذلك سُمِّي (أب شنب)، ألثغ في لسانه، صارم القسمات وبسيط التعامل في غير إخلال بهيبته، أنيق الملبس يتردي عادة بناطلين بأقمصة محددة الألوان، وينتعل شبطاً من الجلد على قدميه ويظهر من جيب بنطله الأيسر منديل مخطط، وفي الجيب الآخر يحرص على حمل الطبشور ..
لأستاذ الخاتم ذاكرة فوتغرافية يحفظ كل أسماء تلاميذ المدرسة وهي ذات نهرين، يتابع سير اليوم الدراسي بحرص عجيب ويضبط الأداء اليومي بدقة وانضباط، يخشاه حتي المعلمين لا يسمح بأن تكون هناك حصة في أي فصل بلا معلم، إن غاب المدرس لظرف من الظروف القاهرة فهو يقوم بالتدريس. ومن عجب انه يدرس أية مادة، يتميز بجانب إنساني عظيم يعطي قيمة المعلم الحقيقية، فهو يعلم أية مشكلة تجابه أي تلميذ ويسعى لحلها بروح الأب الحنون، ويتعامل مع كل تلميذ حسب طباعه ويعرف الطالب المشاغب والمشاكس والمثابر والهادئ والمتسيِّب والمهمل، ويتعامل مع كلٍ على طريقته، له إلمام بتفاصيل الحياة العامة في المدرسة ويشارك في النشاط الرياضي والثقافي والجمعية الادبية ودوري الفصول ومناشطها المتنوعة في كرة القدم والكرة الطائرة وكرة السلة والجمباز ويتابع بدقة وتفانٍ مذهل نشاط الجمعيات الأكاديمية مثل جمعية اللغة الإنجليزية والعلوم والتاريخ والجغرافيا.. لا نعرف أن تلميذاً استطاع من الرهبة أن يدخل مكتبه ألا قليلاً فله مكتب منظَّم للغاية، على طاولة مكتبه الخضراء العريقة هناك ملفات وأدوات ودفاتر وأدوات مكتبية متنوعة وجرس يدوي دائري الشكل يضغط عليه لمناداة الفراش والخفير والساعي، على الحائط عُلِّقت ساعة ضخمة علاماتها هي الأعداد الرومانية القديمة.. وعلى جانبي المكتب كراسي الخيزران المنسوجة وكراسي جلوس ضخمة ذات لون أقرب للأخضر عليها مساند منجدة من القطن.. وطاولات صغيرة وضعت أمام الكراسي.
كان الاستاذ الخاتم النموذج الذي لا تمحي ولا تزول ملامحه او تتلاشى، للمعلم المربي الذي يغرس في النفوس فضائل وقيم الحياة الراقية، فقد كان حريصاً للغاية في كل احاديثه بالطابور اليومي على أن ينبهنا لكي نتعلم ويظل يحدثنا عن فضل التعليم واهميته في تغيير الحياة وبناء المستقبل.. وحتي هذه اللحظة كأنني اراه في الممرات والفرندات والمصطبة العالية امام مكتبه..رغم مرور السنوات وتعاقب الايام والدهر.
(ح)
ويدلق حافظ كل ما عنده عن المدرسة.
« كان المعلمون في تلك الفترة يأتون من كل بقاع السودان..هم من أفرغ في دواخلنا وأفئدتنا حب الوطن ووحدته وقوميته.. فاللغة العربية درسناها عند استاذ قادم من أقصى الشرق وهو الاستاذ (عمر محمد عمر أب درش) اصوله من البجا، فصيح اللسان غزير العلم ، وجاء من شمال السودان ودرسنا مادة العلوم، الاستاذ(عباس سلطان كيجاب) شقيق السباح العالمي كيجاب، الرياضيات كان استاذها (أحمد مصطفي امان) من مدينة الأبيض الذي علمنا كيف نعد الجرائد الحائطية المصورة، وهي عبارة عن قصصات من مجلات العربي والحوادث والصياد وأخر ساعة وأكتوبر والمصور وبناء الصين والصين المصورة وصباح الخير وروز اليوسف والشبكة، ودرسنا الرياضيات علي الاستاذ (محمد آدم عبد الكريم- د. حنين) من أهالي الفاشر، ومن الدبيبات بجنوب كردفان درسنا التاريخ علي يد استاذنا (خليفة محمد بابكر) ودرسنا اللغة الإنجليزية علي يد الاستاذ الكبير (حسين محمد حامد النحلة) من أبناء شمال دارفور، وكان مجيداً في مادته ولاعب كرة قدم مشهور بنادي مريخ الفاشر، يجيد التمثيل خاصة عندما يقرأ لنا قصص الادب الإنجليزي ويحاكي الشخصيات في الروايات المسرحيات والقصص. ودرسنا المواد الادبية على الاستاذ(محمد سيد احمد الغول) من ابناء ام درمان ومادة العلوم على يد المعلم الكبير (عبد الله سرالختم ) والجغرافيا على الأستاذ (التجاني صالح ابو اليمن) والرياضيات علي الاستاذ (الطيب بابكر ابو اليمن) .. لكنني لا ولن أنسي ابداً الاستاذ الكبير مولانا (مصطفي منقة) وهو معلم التربية الإسلامية واللغلة العربية الذي كان ما أن ندخل مكتب المعلمين حتي يغلق الباب ويلقي علينا أسئلة في الإعراب من آيات القرآن الكريم ، وهو خريج المعهد العلمي ومن شيوخ الطريقة التجانية ..
(خ)
تطفر دمعة ساخنة من خد المدينة وحافظ يحكي :
كان بعض الطلاب يأتون من منازلهم مثل أبناء العاملين بعربة كومر حكومية تسمى السفينة تتبع لمدرسة الفاشر الثانوية، كنت ألفة الفصل والطابور.. أحمل الطباشير وأمسح السبورة بـ(البشاورة) وأقوم بالتمام اليومي وأنا أتجول وسط الفصل مزهواً بجزمتي(الكموش) التي تم شراؤها من محلات (باتا) بسوق الفاشر، وقميصي المقوَّس في جانبيه ينتفخ من زهوي بمهمتي المقدسة، ومن النوافذ نرى الفراشين يعدون وجبات العون الغذائي المكوَّنة من الساردين وأنواع الجبن الرومية والفاصوليا واللبن المجفف وأستاذنا الخال (مختار عبدالله) يشرف على كل صغيرة وكبيرة من وجبة التلاميذ.. وهذا الأستاذ هو الذي جعلنا نعرف العالم في حصص الجغرافيا ويرن في أذني حتي اللحظة صوته الداوي يقول (صحراء كلهاري.. الربع الخالي.. البحيرات الخمس..تنجانيقا..نهر الأمازون ..)..
ثم أنني على حافة هذه الذكرى .. في نهاية اليوم الدراسي أسمع أصوات البعض في سوق الفاشر الكبير في نهاية اليوم والتلاميذ يملأون الطرقات ينتشرون بأعداد لا أول لها ولا آخر، أسمعهم في القهاوي وعند البئر والخراجة وبائعي الفواكه يتصايحون (ناس الصين الشعبية طلعوا ..)..
أين من عيني هاتيك المجالي.. ؟؟َ ويصمت حافظ عمر ألفا .. وفي النفس بقية من حتي …![/JUSTIFY]