تحقيقات وتقارير

بعد سقوط الكرمك: هل انتهت المعركة…؟


ربما لم يدر بخلد أكثر الناس تفاؤلاً أن مدينة الكرمك التي توصف بأنها القلعة الحصينة للجنرال مالك عقار زعيم الحركة الشعبية في الشمال ستسقط في يد القوات المسلحة في غضون شهرين لا أكثر، فالمدينة التي استولي عليها الجيش الشعبي في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، بقيت في قبضة الحركة الشعبية منذ ذلك الحين، دون أن يفلح بند الترتيبات الأمنية في اتفاقية نيفاشا للسلام في إخراج الجيش الشعبي منها إلى المناطق الواقعة جنوب خط 1956م، ليأتي تمرد مالك عقار المفاجئ في ثالث أيام عيد الفطر الماضي، ليمهد الطريق أمام القوات المسلحة لتحقيق رغبة قديمة، أوقفت تنفيذها عند توقيع بروتوكول وقف إطلاق النار عام 2002م، حينما كانت على بعد ثلاثين كيلومتراً من الكرمك.

معركة النيل الأزرق، بدت للبعض أشد صعوبة بالنسبة للحكومة من معركة جنوب كردفان، على اعتبار أن الجبهة الشرقية، على أيام الحرب ونشاط التجمع فى النصف الثانى من تسعينيات القرن الماضى امتدت من الكرمك في الجنوب الشرقي إلى مدينة كسلاً شمالاً، تم اعتبارها على الدوام رقماً صعباً في المعادلة بين الجيش الشعبي والقوات المسلحة، خاصة أنها منطقة حدودية، يسهل التسلل إليها والخروج منها، سواء إلى إثيوبيا المجاورة أو الجنوب، فضلاً عن أن عقار تحديداً، تباهي علناً بجيشه وقصره وعصبته، ما أوحي بأن الرجل يستند إلى قوة عسكرية وسند شعبي محلي لا قبل للخرطوم به.
تحرير الكرمك، وتجول الرئيس البشير بينها وبين مدينة الدمازين، وممارسته (عرضته) الشهيرة وسط حشد من المحتفلين في الدمازين بسقوط الكرمك، مرتدياً بزته العسكرية، بخلاف المرات السابقة في الماضي القريب حينما اعتاد أن يعرض مرتدياً الزي المدني، أعادت للأذهان صورة انتصارات الإنقاذ العسكرية الأولي، التي تمكنت من تحقيقها خلال النصف الأول من التسعينيات، وسط ظروف عصيبة، شكلت الضائقة الاقتصادية والحصار السياسي أبرز ملامحها.
استعادة الكرمك، يأتي على الحكومة هذه المرة وهي في ظروف عصيبة أيضاً، فكثيرون، توقعوا أن يكتب الصعوبات الاقتصادية في الشمال عقب الانفصال، مصحوباً بحربي النيل الأزرق وجنوب كردفان، إضافة إلى المزاج الثوري الذي تعيشه شعوب المنطقة، أن تكتب كل هذه المتغيرات آخر سطر في قصة نظام الإنقاذ، ليأتي التقدم العسكري اللافت في النيل الأزرق، واستعادة الحكومة للكرمك ، لتربك سيناريو إسقاط الإنقاذ الذى ظل يتحدث عنه ياسر عرمان.
تأثير استعادة الكرمك على المشهد السياسي لم تتضح معالمه بعد، فبعد سقوط قلعته الحصينة، ربما يشعر مالك عقار وعبد العزيز الحلو بالضعف واليأس، ويشجعهما ذلك على القبول بصفقة سياسية تبرم على أنقاض الهزيمة العسكرية وتشمل جنوب كردفان، وربما يعزز هذا الاتجاه، تنامي استياء قادة الحركة الشعبية الجنوبية من ضعف الأداء العسكري لعقار وأعوانه في الشمال، وشعور هؤلاء بخطورة اللعب بالنار مع الخرطوم عقب تصاعد هجمات المنشقين داخل الجنوب، والإشارة الخطيرة التي تلقتها جوبا عقب القبض على بيتر عبد الرحمن سولي في أحد المعسكرات داخل الجنوب بتهمة التدبير لانقلاب وشيك، وقد يقود كل هذا إلى رفع يد قادة الحركة الشعبية الجنوبية عن دعم رفاقهم الشماليين عسكرياً، ونصح هؤلاء بقبول أي حل سياسي تقدمه الخرطوم.
السيناريو الثاني بعد سقوط الكرمك، يمضى باتجاه التصعيد، ويرى بعض المراقبين أن الحركة الشعبية في الشمال عقب انهيارها العسكري في النيل الأزرق ستركز على جبهة جنوب كردفان التي ترى ان موقفها فيها أكثر قوة مقارنة بالنيل الأزرق التي خسر فيها الجيش الشعبي في المعركة الأخيرة السند الأثيوبي الذي تلقاه خلال التسعينيات، فأثيوبيا غير راغبة بحسب كثير من المراقبين في حالة من عدم الاستقرار في النيل الأزرق قد تعبر الحدود باتجاه مناطق الأرومو المسلمين الذين تخشى أديس أبابا استغلالهم حالة عدم الاستقرار لتحقيق رغبات انفصالية، في المقابل، يبدو المصير العسكري للحلو معلقاً باستمرار الدعم الذي يتلقاه من الجنوب المجاور، وقدرة حركات دارفور التي تحالف معها فيما عرف باتفاق كاوداعلى تحريك جبهة دارفور التي انخفضت فيها وتيرة المواجهات العسكرية على نحو لافت خلال الآونة الأخيرة.
تداعيات سقوط الكرمك لا تقتصر على الصراع بين الحكومة والحركة الشعبية فقط، ويرى عدد من الخبراء أن تداعيات التقدم العسكري الحكومي في النيل الأزرق ستطال علاقة حزب المؤتمر الوطني الحاكم بقوى المعارضة الرئيسية في الشمال، ويتوقع هؤلاء أن يزيد التقدم العسكري في الكرمك موقف المؤتمر الوطني قوة في الحوار الذي يجريه مع حزبي الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي الأصل، على اعتبار أن أتباع وقيادات الحزبين كانت تصف الحكومة بأنها سفينة غارقة بسبب الأزمة الاقتصادية والحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق، لتأتي التطورات الأخيرة وتشكك في سيناريو غرق المركب الحكومي جراء الضغط العسكري.
في المقابل، يؤكد آخرون من الخبراء أن تطورات معركة النيل الأزرق لن تكون لها تداعيات تذكر على الوضع السياسي في الخرطوم، وعلى موقف الحزبين التقليديين من المؤتمر الوطني، على اعتبار أن هذين الحزبين التقليديين، لم يكونا ضمن قائمة المعولين على إسقاط النظام عبر العمل المسلح بواسطة الجيش الشعبي، واقتصر موقفهما من الحرب على الدعوة لإيقاف القتال وحقن الدماء، ما يعني تأثير سقوط الكرمك على رغبة الحزبين في دخول شراكة سياسية مع المؤتمر الوطني من عدمها تأثير محدود، إن كان ثمة تأثير بالفعل.
يحذر خبراء من أن بقاء الجيش الشعبي في موقع جغرافي بعينه، مثل الكرمك، تسهل مراقبته وتطويقه، أفضل من صعود بقاياه وأفراده إلى الجبال وتسللها إلى الوديان والمناطق الخلوية، على اعتبار أن سقوط الكرمك قد يدفع عناصر الجيش الشعبي إلى اتباع أسلوب حرب العصابات، وتوجيه ضربات محدودة ومباغتة هنا وهناك، بينما يؤكد آخرون، أن سقوط الكرمك، قلعة الجنرال مالك عقار الحصينة، يعني أن المرحلة الحاسمة من الحرب بين الجيش الشعبي والقوات المسلحة قد انتهت..الحرب في النيل الأزرق على الأقل..!

تقرير: مجاهد بشير
الراي العام