جعفر عباس

سيرة وطن في مسيرة زول (6)


[ALIGN=CENTER]سيرة وطن في مسيرة زول (6) [/ALIGN] وجئت في عام 1988 وفي أعقاب فيضان النيل الكاسح الذي أغرق أجزاء ضخمة من جزيرة بدين، بأن تعداد سكانها ــ بحسب مصادر رسمية ــ يبلغ نصف مليون نسمة، طبعا هذا عدد المقيمين فيها، في حين أن عدد أهلها المهاجرين منها أكبر من ذلك بكثير، والمعروف ان أهلي النوبيين من المحس والدناقلة أول من “اكتشف” السعودية، وكانوا اول من هاجر اليها، وكان المغترب في السعودية يسمى “جداوي” نسبة الى مدينة جدة التي كانت ولا تزال مركزا تجاريا ضخما، وكانت نقطة الجذب الأساسية للمهاجرين في عصر ما قبل الطفرة النفطية، وعندما حصلت على وظيفة في شركة أرامكو السعودية في الظهران في أواخر السبعينيات قالت أمي: إن شاللا (إن شاء الله) ستجد وظيفة في جدة قريبا!! وعندما تركت الظهران الى قطر والإمارات اقتنعت أمي بأنني لن انجح في “تكوين نفسي” لأنني لم أجد فرصة عمل في جدة، ولكن معظم أهل بدين اختاروا “الاغتراب” في السودان، واختار كثيرون منهم، وبينهم والدي العمل في “البابورات” التي هي البواخر النيلية، انطلاقا من الخرطوم بحري ثم كوستي، وكانوا يمارسون تجارة بسيطة في رحلاتهم من والى جنوب السودان.
أما الصامدون في بدين لتولي شؤون رعاية الأرض والزراعة والنخيل (بالذات)، فقد كانت حياتهم العملية اليومية تبدأ في السابعة صباحا وتنتهي في نحو العاشرة صباحا،.. في عصر الساقية (أداة لرفع الماء من النهر او البئر تدار بالثيران) كانت ساعات العمل طويلة، لأن ري خمسين مترا مربعا من الأرض كان يستغرق نحو عشر ساعات، ولكن بدين عرفت المشاريع الزراعية الحديثة القائمة على المضخات التي تعمل بمشتقات البترول منذ أواخر الأربعينيات، ولا يجوز الحديث عن مسيرة بدين من دون الحديث عن “موسليني”، وكان اسمه الأصلي محمد عثمان فقير علي، ولعل اسم موسليني التصق به خلال الحرب العالمية الثانية في الأربعينيات عندما ذاع ذكر ديكتاتور ايطاليا بينيتو موسليني (الدوتشي)، وربما ربط الناس بينه وبين موسليني الأصلي لأن كليهما كان ذا قدرات خطابية وجماهيرية عالية، وقد كان محمد عثمان موسليني – وتربطني به قرابة من الدرجة الأولى – فصيح اللسان بالعربية والنوبية، وكان ينتمي الى أقلية تعرف القراءة والكتابة، ولكن ما ميزه عن غيره هو أنه كان مؤمنا بأهمية التعليم النظامي ويعتبر “الخلوة” بمثابة روضة تعد الأطفال للالتحاق بالمدارس الابتدائية الحكومية، والخلوة اسم يطلق في السودان على اي مركز لتحفيظ القرآن وتعليم مبادئ القراءة والكتابة خارج إطار التعليم النظامي، ومضى موسليني الى أبعد من ذلك فبنى في بيته بضع حجرات جعل منها شيئا ما بين الخلوة والروضة، يدرس فيها الصغار مبادئ القراءة والكتابة والحساب،.. ولكن بدون كراسات، فقد كان على كل طفل ان يمسح التراب الذي أمامه ويجعله متساوي التضاريس ليكتب بأصابعه عليه، وكان موسليني يستعين احيانا بصبية شاطرين ليساعدوه في شؤون التدريس، وكان هؤلاء المعاونون من الخريجين المميزين للخلاوي، ولكنهم كانوا قد تشبعوا بالروح السلطوية التي كانت الخلاوي تتسم بها، حيث كان من حق الفكي ان يمارس الإرهاب والتعذيب لضمان فرض سيطرته على تلاميذه ولضمان أنهم سيجيدون حفظ وترتيل القرآن، وكان أحد اولئك المعاونين متغطرسا ويبحث عن أية ذريعة لضرب التلاميذ، وذات يوم قال لهم اكتبوا كلمة أسد فكتب أحدهم كلمة عسل، وبداهة فقد نال ضربة، والمعلم الصغير يقول: أسد يكتبوه كده يا هُمارة، (هكذا .. حمار تصير في النوبية “همار” وبما ان النوبية ليس فيها تذكير وتأنيث فإن حمارة تصبح “همارة”)، ومسح صاحبنا رقعة الأرض التي أمام التلميذ الذي لا يميز بين الأسد والعسل، ليريه كيف تكتب الكلمة على النحو الصحيح،.. وفوجئ الصغار به وهو يصرخ من الألم!! وما حدث هو أن ذلك التلميذ الشقي كان قد قرر ان يعاقب المعلم الصغير على غطرسته، فأتى بشرك (فخ) طيور ودفنه أمامه بعد ان ربطه الى تكة سرواله، وتعمد كتابة كلمة “أسد” خطأ، وهكذا انطبق الشرك بقوة على يد المعلم الصغير وهو يمسح التراب الذي دُفن فيه الشرك، فكان صراخه ولم يكن من سبيل امام الطفل الشقي سوى الهرب، ولكن الشرك الذي كان مربوطا بسرواله كان مطبقا بإحكام على يد المعلم فلم يجد الطفل مناصا من ان يملص سرواله ويتركه معلقا في يد المعلم مع الشرك.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com