جعفر عباس

الشيوعي الذي حرمنا من النوم


[ALIGN=CENTER]الشيوعي الذي حرمنا من النوم [/ALIGN] في جامعة الخرطوم لم يعد هناك مكان للشللية القائمة على القبيلة او المنطقة،.. فحتى الجعليين كانوا من التواضع بحيث صادقوا الشايقية والدناقلة، وبعد اشهر قليلة من سنتي الأولى في الجامعة كنت قد صادقت زملاء من كردفان ومن الهدندوة وجبال النوبة والبطانة وغيرها من المناطق والقبائل، طبعا ظل في دواخلي إحساس مكتوم بأن هؤلاء جميعا من قبيل أهل الذمة يعيشون في كنف دولة النوبة التي تؤكد كتب التاريخ والجغرافيا والفيزياء أن حدودها الجنوبية هي سوبا جنوب الخرطوم، وفي الانترنت مواقع كثيرة عن تلك الدولة، وكي لا أتهم بالأونطة والسلبطة فإنني أحيلكم الى أكثر المواقع المتخصصة في الآثار والأنثروبولوجيا رصانة وهو “أركماني” الذي أنشأه عالم الآثار الراحل البرفسور أسامة عبدالرحمن النور، وهو بمعايير أهل البندر “ود عرب”، ومن بيت أم درماني عريق عراقة الحضارة النوبية، ولكن ولأن أسامة عالم فهو شاهد صادق في كل ما يتعلق بتاريخ السودان القديم الذي هو في المحصلة الأخيرة “نوبي”.. طبعا دهاقنة علم الآثار في السودان المعاصر كانوا وما زالوا نوبيين ولكنني لن استشهد بإفاداتهم دفعا لشبهة المحاباة.. و”آخرتها” نسي أهل الحكم في الخرطوم ان متحف السودان القومي نوبي “من طقطق لسلام عليكم”، وجعلوا اثنين من أشهر ملوكنا (تمثالين) بوابين على مدخل المتحف! ولكن وبكل جدية فان جامعة الخرطوم والمعهد الفني وجامعة القاهرة ومعهد المعلمين العالي (كلية التربية لاحقا) كانت بوتقة لوحدة وطنية غير مفتعلة، ولم تكن بأي منها روابط إقليمية، فقط أقلية من ابناء الجنوب كانوا ينضوون في تنظيمات أجندتها مناطقية لأسباب معقولة ومفهومة.. بل وإن العلاقة بين أعضاء التنظيمات السياسية المتناحرة كان يشوبها الود والاحترام،.. ففي داخليتنا “بحر الزراف”، كان الاخواني جعفر ميرغني (لاحقا البروفسور الباحث المجتهد الذي نكن له نحن النوبيون احتراما كبيرا لأنه نقب في تاريخنا ووجد فيه ما يجعلنا نتعالى حتى على الجعليين – على شراستهم).. كان يسكن في غرفة مع شيوعي راس هوس، كان الشيوعيون أنفسهم يتفادون مجادلته، لأنه كان من النوع الذي إذا أردت ان “تقصر الحجة” وقلت إنك أدركت ان ماركس كان على حق في كل ما قاله، فإنه كان ينقلب على ماركس ويلعن خاشه، كي يجد ذريعة يواصل بها الجدل، وكان النقاش يستعر بينهما في اول المساء، في بث حي لم نكن نسمع خلاله وجهة نظر جعفر ميرغني، ولكن صاحبنا كان يتولى تلخيصها ونقلها الينا نحن الذين كنا نرقد على بعد مائتي متر من غرفتهما،… وبعد أن أجهدنا الأرق والسهر شكلنا وفدا لمحاورة جعفر ميرغني لإقناعه بترك تنظيم الإخوان المسلمين، والانضمام الى رابطة الطلبة الشيوعيين، حتى يكف زميله في السكن عن مناكفته، فننعم ببعض الراحة والنوم، ولأن جعفر ميرغني رجل ودود ويجبر بخاطر من يستعين به فقد أبدى موافقته، ولكنه أضاف: أنا متأكد اني لو بقيت شيوعي، صاحبنا حيبقى من الإخوان المسلمين لأن الغاية عنده هي عدم الاتفاق مع من يحاورونه، واقتنعنا بوجهة النظر هذه،.. وهكذا قدمنا عريضة للشيوعيين نتعهد فيها بالتصويت لهم في الانتخابات إذا فصلوا صاحبنا ذاك من عضوية حزبهم، وكان الشيوعيون في منتهى الظرف والذوق (وكانوا أصلا يبحثون في طريقة تخارجهم من الرفيق الركن ذاك).. وعلقوا بيانا في “قهوة النشاط” يتبرأون فيه من ذلك المناكف،.. بل “تحت، تحت” أهدروا دمه، ليس بمعنى الحث على تصفيته جسديا بل قالوا: لو وجدتم طريقة لإسكاته فسنتستر عليكم.. ولم نتنفس الصعداء طويلا، فقد أعلن الرفيق المفصول عن تكوين حزب شيوعي ثوري، كان هو مكتبه السياسي ولجنته المركزية وسكرتيره العام.. وهرب جعفر ميرغني بليل الى داخلية أخرى، واضطررنا نحن الصامدون في داخلية بحر الزراف الى إعلان انتمائنا جميعا الى حزبه الشيوعي الثوري حتى نسد عليه باب الجدل معنا، فاضطر صاحبنا الى الإعلان عن حل الحزب وصار بعثيا.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com