جعفر عباس

الشيوعيون كادوا يقتلوني


[ALIGN=CENTER]الشيوعيون كادوا يقتلوني [/ALIGN] كانت حياتنا في قسم السرايا بسجن كوبر حافلة بالنشاط الثقافي والرياضي، وكانت هناك لجنة من أرباب السوابق ومعتادي الإجرام السياسي تضع اللوائح والضوابط التي تحدد إيقاع الحياة في المعتقل وأساليب التعامل مع إدارة السجن.. كنت اقوم بتدريس الانجليزية للبعض وكان هناك من يدرس لغات مثل الفرنسية والروسية، وكانت هناك محاضرات في الاقتصاد والادب وكل ضروب المعرفة، وبحكم أن الشيوعيين يعتبرون سجن كوبر “بيت أبوهم” فقد كانوا يسيطرون على تلك اللجنة، وقاموا بتقسيم المعتقلين الى مجموعات كل واحدة منها تسمى (كميون – commune) وهي التسمية الماركسية للجماعة التي تشترك في الأنشطة الحياتية وتتقاسم أعباءها وعوائدها.. فات عليهم أن تجربة كميون باريس فشلت (هي أول حكومة للطبقة العاملة في التاريخ، قامت في باريس ما بين 18 مارس 1871 حتى 28 مايو من نفس العام.. كانت حكومة “محلية” ورغم قصر عمرها فإنها تعتبر محطة مفصلية في تاريخ الحركة الشيوعية رغم ان الفوضويين anarchists نسبوا الفضل في قيامها لحركتهم). كان كل كميون في السجن يقسم العمل بين أعضائه (غسل أواني الطعام ولاحقا إعداد الطعام والمشروبات الساخنة).. وكان العضو ملزما بتسليم الكميون كل شيء يأتيه به أهله: سجائر ومأكولات وصابون إلخ).
وكانت الحياة في السرايا تسير بسلاسة، لأنها كانت حافلة بالنشاط والأعباء، ولكن الشيوعيين “نكدوا عيشتنا” تلك.. طلع في دماغ لجنة المعتقل ان طباخي السجن لا يحسنون الطبخ وطالبوا بتسليم المعتقلين مكونات الطعام في شكلها الخام ليتولوا هم بأنفسهم مهمة الطبخ، ورفضت إدارة السجن هذا المطلب “السخيف”، وحمدت الله على ذلك.. في السودان يتهكمون على أهلي النوبيين ويقولون إن “النوبي إذا فلح يبقى طباخ”، فقد كان كل الطباخين في القصور والفنادق في السودان ومصر ولاحقا في دول الجزيرة العربية من النوبيين، لسبب بديهي وهو أنه لم يكن يوجد غيرهم في المنطقة يعرف المائدة المنوعة، ولديه “ثقافة طعام”،.. وشككت في نوايا لجنة المعتقل، بحسبان أنهم يطالبون بمواد غير مطبوخة ثم سيقولون لنا نحن النوبيين وكنا نحو عشرة في ذلك الجزء من المعتقل من بين نحو مائتين: يللا شوفوا شغلكم… ورونا شطارتكم!! بذمتكم هل هناك شخص عاقل يأتيه الطعام جاهزا فيقول: لا أنا أريده نيئا لأطبخه بنفسي؟
كان الشيوعيون يريدون جنازة ليشبعوا فيها “لطم” كما يقول المصريون، وجاءتهم الجنازة برفض إدارة السجن منح المعتقلين المواد الخام ليعدوا طعامهم بأنفسهم، وهكذا قرروا دخول المعتقلين في إضراب عن الطعام،.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. قمت بتشكيل لوبي (مجموعة ضغط) لإلغاء الإضراب والإطاحة بلجنة تسيير المعتقل، ولكن لم ينضم إلينا سوى نفر معدود،.. وأضربنا عن الطعام.. وبعد مرور نحو 36 ساعة صارت معدتي ترفض الماء، وفقدت القدرة على التركيز، ورقدت على الأرض خائر القوى،.. ثم شعرت بهزة في جسمي، وفتحت عيني بصعوبة، ورأيت كائنا غريب الملامح فقلت: أكيد ده عزرائيل.. حسرة على شبابك يا أبوالجعافر قتلك الشيوعيون وأنت غض العود.. وأمسك ذلك الكائن برقبتي من الخلف، فرددت الشهادتين، ثم أحسست بشيء دافئ في شفتي، فقلت: هذه هي لسعة الروح وهي تخرج.. وسمعت صوتا يقول: اشرب.. خُد شفطة.. وشفطت بصعوبة وأحسست بطعم لذيذ وهتفت في سري: يبدو أنني دخلت الجنة بوصفي شهيدا لأنني مت مظلوما ولقيت حتفي على يد الشيوعيين، وشفطت مرة أخرى وثالثة وسابعة.. وتنبهت حواسي بعض الشيء،.. كان أحد زملائي في المعتقل يسقيني شوربة دافئة بعد ان تقرر فك الإضراب عن الطعام لأن إدارة السجن “تخاذلت” ولبت مطالب لجنة المعتقل بتسليمنا المواد الخام للطعام… وسبب تخاذلها كما علمت لاحقا هو أن الشيوعيين الملاحيس كانوا بطريقة أو بأخرى ينظمون احتجاجات وإضرابات متزامنة في كل سجون السودان.. يعني كان المعتقلون في سجون مدن الأقاليم أيضا وكانوا بالآلاف مضربين عن الطعام أيضا.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com