رأي ومقالات

مآلات إعلان الرئيس عدم الترشح في الإنتخابات القادمة


أثار تصريح الرئيس بعزمه على ترك السلطة نهاية فترة ولايته، وعدم الترشح في الإنتخابات القادمة ردود فعل واسعة سواءً كان داخل المؤتمر الوطني أو خارجه. غالب ردود الأفعال من خارج المؤتمر الوطني كان الترحيب، وإن كان البعض واضعاً بعض الإشتراطات مثل حزب الأمة القومي، إذ طالب السيد الصادق المهدي الرئيس بحزو من سبقوه من القوات المسلحة، وذلك بتسليم السلطة بعد رحيله للقوات المسلحة وليس للمؤتمر الوطني. ولسنا هنا بصدد تتبع ردود الأفعال وتحليلها، ولكنا بصدد دراسة وتتبع المعطيات والوقائع على الأرض لنرى هل سيفي الرئيس بما أعلن أم لا؟.

بدأً نقرر جملة وتفصيلاً أن ما ذكره الرئيس هو رأيه الخاص والشخصي، وذلك ربما يكون مرده للعنت والتعب والمشقة التي عاناها الرئيس خلال فترة حكمه التي إمتدت لأكثر من عقدين من الزمان. عانى فيها ما لم يعانيه رئيس من قبله في الحكم سواءً كان في داخل السودان أو خارجه. هذه المعاناة الناتجة من الإستهداف الداخلي والخارجي. وبالتأكيد فإن هذا الإستهداف ليس المقصود منه شخص الرئيس البشير وإنما التوجه الذي يحمله ويمثله البشير.
لقد تربى الرئيس منذ باكر صباه تربية مزدوجة إذا إستثنينا الأسرة في القوات المسلحة والحركة الإسلامية، تربية سمتها السمع والطاعة، إضافة إلى تزكية النفس والعضوية في داخل الحركة الإسلامية. فوجد إخواناً حسبهم ملائكة أو هكذا صورتهم تربية الحركة الإسلامية. وعندما أوكل إليه أمر إستلام السلطة فعل ذلك طائعاً محتسباً. وعندما تطاول الزمان في السلطة مع إخوة الأمس وجدهم بشر عاديون يخطئون ويصيبون ويطمعون كذلك. قصدت من هذه الجملة الإعتراضية أن أشير إلى أن كل العنت الذي واجهه الرئيس سواءً من الداخل أو الخارج تجاه توجهه وتجاه الحركة الإسلامية، أصبح يدفع ثمنه أكثر من غيره وبصورة شخصية. وأكاد أتخيل من شدة ما عانى السيد الرئيس، أنه لو إستقبل من أمره ما إستدبر لرفض الأمر الذي تم تكليفه به ليلة التاسع والعشرين من يونيو في العام ألف وتسعمائة وتسعة وثمانون.
للرئيس كثير من الآراء الخاصة، عبّر عنها في كثير من المواقف السياسية، ولكنها تصطدم بتوجهات الحزب، فيتراجع عنها الرئيس. منها التصريح الأخير الذي يتعلق بعدم التفاوض مع قطاع الشمال!.
ونكرر السؤال هنا، هل سيفي الرئيس بما صرح به من عدم الترشح في الإنتخابات القادمة؟.

في وقبل المؤتمر الأخير للحركة الإسلامية كانت هناك أصوات كثيرة تنادي بالإصلاح، منها مجموعة الإصلاح، ومنها سائحون، ومجموعة أساتذة الجامعات في الحركة الإسلامية. وقد كان صوتها عالياً قبل المؤتمر، وربما كان مؤثراً، ولكن ما أن بدأت جلسات المؤتمر حتى تبخرت كل مطالب الإصلاحيين.

لم يعدل الدستور ويتم إنتخاب الامين العام في المؤتمر كما كانت تنادي مجموعة غازي صلاح الدين.
عدل الدستور لكي لا يتم إنتخاب الأستاذ علي عثمان أميناً عاماً مرةً أخرى.
تم إستبعاد كمال عبيد كمشرح قوي لأمانة الحركة الإسلامية، وذلك لأن كمال عبيد هو أحد تلاميذ الأستاذ علي عثمان، وبعد ذلك تم تعيينه مديراً لجامعة أفريقيا العالمية.
قبل ذلك تم إبعاد حسن عثمان رزق من أمانة الحركة الإسلامية في ولاية الخرطوم، وتم إبعاده كذلك من نيابة الأمين العام للحركة الإسلامية.

هذه مؤشرات لها دلالتها، وخاصة في نوعية الأشخاص الذين يبعدون، أو يتسلمون أمر القيادة. كما لها دلالتها الواضحة في عدم الرغبة في التغيير والتي نادت به المجموعات المختلفة.

كما لها دلالتها بأن هناك مجموعة منظمة ومرتبة في داخل الحركة الإسلامية، وتخطط لما تريد، وعندها القابلية للفعل، كما تملك تأثيراً قوياً على عدد غير قليل من العضوية، وهذا التأثير إكتسبته من قربها وإرتباطها بالرئيس.

مجموعات الإصلاح تضم في مكوناتها أنماطاً مختلفة في الحركة الإسلامية، منهم المخلصين والصادقين، ومنهم المفكرين والعلماء، ومنهم كذلك أصحاب المصالح والذين يريدون تحقيق ما فقدوه من السلطة عن طريق الحركة الإسلامية، لهم قدرة عالية على التأثير، ولهم شجاعة كافية تجعلهم قادرين على إسماع أصواتهم ومطالبهم، ولكنهم عندهم قدرة محدودة، أو فلنقل عدم رغبة في المواجهة، وذلك بما ملأ نفوسهم من آثار الإنشقاق في الحركة الإسلامية، إضافة إلى إدراكهم للمخاطر التي تحيط بالبلد من جراء الإنقسام، لذلك سوف لن يذهبوا بعيداً في مواجهة المجموعة السابقة التي ذكرناها.
بعد أن أعلن الرئيس عن نيته التنحي، بدأت في البداية ردود أفعال خجولة من داخل الحزب، وصُرِّح بأن أمر كهذا هو من إختصاص أجهزة الحزب. ثم تحول الأمر إلى الإعلان عن ذلك من بعض المسئولين في الحزب، حيث صرح حسبو محمد عبد الرحمن الأمين السياسي للحزب أن قرار ترشيح الرئيس هو من سلطة المؤتمر العام للحزب، والذي كما أشرنا سابقاً فقد تم تأجيله إلى قبيل الإنتخابات!.

تبع هذا حراك برئاسة شخصية قيادية رفيعة في الولايات لجمع توقيعات لإثناء الرئيس والتراجع عن ذلك الإعلان. وفي نفس الإتجاه كان حديث الأستاذ علي عثمان محمد طه في مؤتمره الصحفي الذي عقده يوم السادس والعشرين من مارس، حيث قال إن تصريح الرئيس بالتنحي هو أمر خاص، ولكن من يقرر ذلك هو أجهزة الحزب والشعب السوداني، إضافة إلى مجموعة من الإلتزامات التي قطعها الرئيس على نفسه ولابد من إكمالها.

يبدو من ذلك فإن هناك صراعاً بين مجموعتين، مجموعة ترى أن يعدل الرئيس عن إعلانه ويترشح لولاية أخرى. ومجموعة أخرى ترى أن لا يترشح الرئيس لولاية أخرى ، وأن يفي الرئيس بما أعلنه. ولكن في داخل كل مجموعة تختلف الأهداف في سبب دعوتها.

فالمجموعة التي ترى ضرورة تعديل الرئيس لإعلانه في عدم الترشح تضم مجموعتين. المجموعة الأولى هي مجموعة لا تحظى بسند جماهيري كبير، وليس لها حظوظ حتى في داخل أروقة الحزب، وربما إفتعلت معارك كثيرة في داخل الحزب أفرزت خصومات مع شخصيات نافذة ومسئولة. ولكن هذه المجموعة تحظى بدعم قوي من الرئيس لأنها إكتسبت ثقة الرئيس بإنفاذها ونجاحها بإمتياز فيما يوكله لها الرئيس من مهام.

تضم هذه المجموعة مجموعة أخرى صادقة تعتقد بأن البلد تحيط به مجموعة من المؤامرات في الداخل والخارج، وأن شخصية الرئيس تجد قبولاً واسعاً سواءً من عضوية الحزب أو عامة جماهير الشعب السوداني، وبالتالي هي العاصم من القواصم التي تحيط بالبلد، وذهاب الرئيس يعني تصدع المؤتمر الوطني وتفرقه بين أيدي سبأ، ومن بعد ذلك ربما تفرق السودان وتصدعه. وتعتقد هذه المجموعة أن الرئيس مواجه بأمر القبض من المحكمة الجنائية، فبقاؤه في السلطة يدعم موقف الحصانة التي يتمتع بها الرئيس وهو في السلطة، كما أن بقاءه في الرئاسة يجعل كثير من الدول لا تتجرأ على إعتقاله والتعامل مع الجنائية. ولكن ذهاب الرئيس من الرئاسة يضعف من الحصانة، كما يجعل كثير من الدول تتجرأ على إعتقاله، وربما يواجه الرئيس إذا تنحى من السلطة مصير الرؤساء الأفارقة كحسين هبري وبينوشيه.
أما المجموعة الثانية والتي رحبت بإعلان الرئيس كذلك تضم مجموعتين، الأولى ترى أن ذلك يخدم مصلحة الحزب، وأن في ذلك تجديد للشباب ولعملية الإحلال والإبدال للأجيال، إضافة إلى ذلك تأتي محققة لمطلوبات الربيع العربي والتي من أحد مسبباتها طول بقاء الرؤساء في سدة الحكم. وهؤلاء كذلك يعتقدون أن في فعل ذلك من الرئيس يبعده عن مصير حسني مبارك وبن علي والقذافي.

أما المجموعة الأخرى في داخل هذه المجموعة فهي ترى أن ذلك يفتح المجال لها بتعويض ما فاتها من تحقيق حلم الرئاسة الذي يحلم به الكثيرين، إضافة إلى إعتقادهم في أن ذهاب البشير ربما يفتح الباب واسعاً للتعامل مع العالم الخارجي وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية. ومن ذلك نخلص للآتي:

أولاً: أن هناك تيار منظم في داخل الحزب، وهو نافذ ومقرب من الرئيس، يعمل ويخطط من زمان باكر لبقاء الرئيس وإستمراره وترشحه لولاية ثانية، وهو وراء كل الذي تم في المؤتمر العام.

ثانياً: هناك تيار آخر يعتقد أن بقاء الرئيس فيه عواصم كثيرة من القواصم، إذا كان داخل الحزب لحمايته من الإنقسام، أو إذا كان من المهددات الخارجية. وهم كذلك حريصون أن لا يكون مصير الرئيس كأولئك الذين إستهدفتهم الجنائية بعد تركهم للسلطة، أو مصير الزعماء الذين أطاح بهم الربيع العربي.

ثالثاً: هناك مجموعة سائحون والمصلحون، وهؤلاء سوف يدعمون رغبة الرئيس في التنحي، ولكنهم لن يستطيعوا الذهاب بعيداً لقوة التيارين السابقين، وسيقبلون بالأمر الواقع كما قبلوا بنتائج المؤتمر العام.
رابعاً: ليس هنالك مشكلة في أن يتراجع الرئيس عن رأيه الشخصي أبداه في موفق ما، فليست هي المرة الأولى التي يتنازل فيها الرئيس عن رأيه إستجابة للحزب ومؤسساته.

ومما سبق، ومن قراءة موضوعية للمعطيات على الأرض نستطيع أن نخلص إلى أن الرئيس سوف يتم إقناعه بالعدول عن إعلانه، وسوف يفعل الرئيس ذلك، وسوف يتم إنتخاب الرئيس لولاية أخرى.

د. خالد حسين محمد
Email: [email]khalid-hussain-52@hotmail.co.uk[/email]

smc