شوقي إبراهيم عثمان

من دمر اقتصاد السودان….ورد الاعتبار لحمدي -2


من دمر اقتصاد السودان….ورد الاعتبار لحمدي
(2-3)

أهم نقطة في المقالة الأولى أن وزارة المالية في التسعة الأشهر الأولى من عمر الإنقاذ، أي في الفترة ما بين 30 يونيو 1989م وحتى أبريل 1990م، فقدت حوالي 83% من ولاياتها على المال العام. لقد تم تجريد وزارة المالية من البقرات السمينة في هذه الفترة بالتحديد الاستثمار، والجمارك، والضرائب والزكاة. الدكتور سيد علي زكي (وزير المالية يونيو 1989م وحتى أبريل 1990م) هو الوزير الوحيد الذي أحتج على هذه الوضعية الاقتصادية الخاطئة بخطاب رسمي لمجلس الوزراء ولم يتلقى ردا، بل أحيل للتقاعد في أول تغيير وزاري في أبريل 1990م!! ولم يحتج بعده أي وزير للمالية حتى د. حمدي، بينما صمتت عابدة المهدي!!

ولا ندري من هم الذين قرروا سلب وزارة المالية من أدواتها؟ هل الشيخ الترابي ومجموعته المدنية أم المجلس العسكري؟ ربما الأخير، لأن تأمين النظام وتمكينه كانت إحدى الأولويات، أضف إلى ذلك أن الحركة الشعبية عسكريا وصلت إلى ملكال. ثم ربما لم يرغبوا أن يكشفوا لصندوق النقد الدولي كل أوراقهم، فالصندوق يطالب عادة بكل الحسابات الجارية، والأرصدة، والاحتياطيات، والمنصرفات الخ…كشف حال!! وصادف أبريل من عام 1990م تغيير وزاري وذهاب وزير المالية د. سيد علي زكي إلى منازلهم..وترك هذا المنصب شاغرا وحتى قدوم د. عبد الرحيم حمدي في عام 1991م.

وللسيطرة على التضخم أجبر الجمهور على وضع نقوده في ودائع أو حسابات جارية، وحجزوا عليها وغير مسموح لأصحابها السحب منها إلا بمقدار. الاقتصاد السوداني كان اقتصاد سمسرة وكان السودانيون يمارسون السمسرة في كل شيء في العملات الأجنبية، الفحم، الغلال، وحتى الخضار..!! وفي حقيقة الأمر، لم يملك بنك السودان وقتها سوى ما بين ثلاثة إلى خمسة مليار جنيها، والبنوك التجارية فقط خمسمائة مليون، بينما كان في يدي التجار حوالي ستة عشرة مليارا من الجنيهات خارج القنوات المصرفية وتعزى هذه النسب لتدني التنمية الاقتصادية ولتدني كفاءة البنوك وتحول النشاط الاقتصادي إلى السمسرة الفورية.

كانت هنالك مشكلتان للإنقاذيين، تخفيض معدل التضخم والحاجة إلى النقود السائلة الفورية، فطاردوا كل جنيه ولم يتركوا حتى تجار العملة وذهب ضحيتها المرحوم مجدي وآخرون!!

وفي لحظة يأس قرر الإنقاذيون تبديل العملة من الجنيه إلى الدينار في مارس 1992م وأن يطبعوا من العملة الجديدة بالحجم الذي يشاءون، رفعوا شعار: التنمية بالتضخم. النقود الكثيرة بلا شك تنشط الاقتصاد ولكن أيضا لها تبعات خطيرة كأن يرتفع معدل التضخم إلى معدلات صاروخية. فإذا اخترت هذا الخيار القاسي، عليك أن تسابق عجلة التضخم بالمزيد من التخطيط وأن تصبح كحاكم قدوة لشعبك لكسبه ودفعه نحو المزيد من الإنتاجية!!

الأهم في هذه النقطة، أختار الإنقاذيون طبع ما يشاءون من البنكنوت بضغط الحاجة الفعلية للنقود، ولم يدركوا أبعاد هذه الخطوة في الفلسفة الاقتصادية وردود أفعال المؤسسات الدولية. تفاجئوا بتدخل صندوق النقد الدولي بقوة وغضب شديدين، وحدثت معركة ردح عنيفة هدد فيها الصندوق بطرد السودان من الصندوق الخ، ولكن بالطبع تحت دخان عدم تسديده شهريا خدمة الدين القديم الذي تسبب فيه جعفر النميري وروبرت ماكنيمارا رئيس صندوق النقد الدولي 1968-1982م. عدم القدرة على ألا تدفع دولة ما خدمة الديون ليست مشكلة للصندوق، فهذه الديون صممت أصلا خارج نطاق قدرة الضحايا للدفع هذا معنى عبارة “غير قابلة للسداد”!! وعلى الضحية الاستدانة مرة أخرى، أما أن تحل مشكلتها كأن تطبع من النقود ما تشاء لن يسمح لها صندوق النقد الدولي!!

لو وافق السودان وقتها رسميا أن يتم طرده من الصندوق وبقية المؤسسات النقدية الدولية مثل بنك التسويات والبنك الدولي..الخ لتراجع الصندوق وأذعن مكسورا، فهذه المؤسسات لا تحب أن تخرج دولة ما من أسوارها، خاصة إذا أثبتت نجاحا يضرب به المثل، فمنذ الأربعينيات والخمسينيات والستينات كانت الدول التي خارج أسوار الصندوق، ثلاثة: الكتلة السوفيتية، والصين، ومصر عبد الناصر. فعبد الناصر منذ عام 1956م ركل الصندوق والبنك الدولي ورفض عضويتهما وحتى عام 1968م!! بدونهما نجح عبد الناصر في خطته الخمسية الأولى 1961-1966م في بناء وتصنيع مصر وبناء السد العالي الخ وتهيأ للخطة الخمسية التالية فقرروا في عام 1967م ضرب مصر عسكريا لوقف التجربة الاقتصادية الوطنية التي تنموا بنجاح بمعزل عن صندوقهم والدولار والديون وخدمة الديون..!!

طرد..إلا دي!! كما تقول الصحفية نادية عثمان!! ارتعدت أوصال الإنقاذيين ولم يفهموا إنه كان مجرد تهويش أجوف من قبل الصندوق،..وهنا وجد الدكتور حمدي فرصته!!

الدكتور حمدي شخص مخلص لنفسه ومذهبه وعقيدته الاقتصادية، وهو رجل أعمال بكل المقاييس المحترفة. وكما بحث كل خريج اقتصاد تقليدي لنفسه عن حائط يتكئ عليه كان حظ د. حمدي مع مجموعة البركة والشيخ صالح كامل!!

1991 1993 Minister of Finance, Sudan.
1986 1990 Deputy General Manager, Al Baraka International Bank Ltd., London.
1983 1986 Deputy General Manager, Al Baraka Bank, Sudan.
1979 1983 Deputy General Manager, Faisal Islamic Bank(Sudan).
1976 1979 Investment Advisor, Saudi Sudanese Investment office, Sudan.
1970 1976 Assistant General Manager, Cotton Public Corporation, Sudan .
1965 1969 Editor of Islamic political daily El Mithag Sudan
1962 1965 Financial Inspector, Ministry of Finance, Sudan.

فاللوم لا يقع على رجل الأعمال د. حمدي بل على هؤلاء الإسلاميين، أي على حزب الإسلاميين حين لم ينجحوا في تاريخهم السياسي الطويل أن يصنعوا اقتصاديين ينحازون إلى القضية الوطنية، وكأن ينتجوا رؤية اقتصادية تتجاوز الأنظومة الأيديولوجية الاقتصادية الغربية الخ، فلماذا تلومون د. حمدي؟ فالحركة الإسلامية، شئنا أم أبينا هم سودانيون، وأنصار وكوادر حزب الأمة سودانيون الخ وحزب الأمة نفسه يضع على قمة البنك المركزي خريج كلية آداب!! فالخطأ الذي وقع فيه الإسلاميون أن سلموا إدارة مقاليد الاقتصاد السوداني لرجال الأعمال والبزنز من ضربة البداية، فهنالك حتما تناقض مصالح conflict of interest. بل الأنكى عل النفس أن يصبح العسكريون رجال اقتصاد مثل صلاح كرار الذي ترأس المفوضية الاقتصادية..!!

حين تقدم د. حمدي بمعية الشيخ صالح كامل كمستثمرين في السودان وجلسا مع رئيس الجمهورية كانت المعركة مع صندوق النقد الدولي تطل برأسها والطرد من الصندوق كان مرعبا مع فكرة استخراج البترول ولهذا السبب تم توزير د. حمدي في عام 1991-1993م. وربما لم يضع حمدي رجله في وزارة المالية البتة ولم يعنيه شأنها كون ولايتها تقلصت 83%، بل أصر أن يتوزر كممثل لبنك البركةAl Baraka Representative ِ، البركة انترناشونال المحدود، ومقره لندن وليس بشخصه الطبيعي. فكانت مهمته مهمات خاصة ما بين لندن وفندق الهيلتون الذي حوله إلى وزارة صغيرة. وفي نصب عينيه شيئان: تهدئة صندوق النقد الدولي، وإيجاد شريك دولي لاستخراج البترول!!

ولم يجد حمدي صعوبة مع صندوق النقد الدولي فرشوتهم واضحة، يكفي أن يقول لهم حمدي إنه سيطبق برنامجهم، برنامج التكييف الهيكلي structural adjustment programs في السودان حتى يقيموا له حفلا!! فهو شعار التسعينيات، وأس العولمة، وتقليص السيادة الوطنية للدول، وتفكيك القطاع العام وخصخصته، ورفع شأن القطاع الخاص، وإلغاء كافة الدعومات عن الشعب، مثل إلغاء مجانية التعليم، والصحة، والخدمات..الخ!! الدكتور حمدي في حواراته الصحفية لا يشير أنه نفذ شروط صندوق النقد الدولي، بل يرجع الأمر إلى “فلسفته الاقتصادية” ولا أدري هل أخبر رئاسة الجمهورية بأنها شروط الصندوق أو أنه أقنعهم بأفكاره “التحريرية”!! عموما، وافق الصندوق ألا يعلق عضوية السودان في الصندوق، وفرض على الإنقاذيين رقابة لصيقة لتنفيذ الخصخصة ورفعت الرقابة عام 1998م!!

أما البترول، نجح بنك البركة بقيادة حمدي في جر بعض الباكستانيين الكنديي الجنسية للتنقيب في السودان ويمتلكون شركة بترول جد صغيرة أمسها Arakis Energy Corporation يمتلكها الباكستاني الكندي (محمد) لطفور رحمن خان. وكان لطفور هو المفتاح في جر وإنشاء الكونسورتيوم المكون من الشركة الوطنية الصينية للبترول، بيتروناس الماليزية، وشركة سودابيت، واراكيس!! في أواخر 1993م تحصلت أراكيس على حق امتياز التنقيب وهو جزء من تركة شيفرون شمال مدينة بنتيو، وإلى هنا انتهت مهمة د. حمدي، ويقال في نهاية هذا العام تزوج ابن محمد لطفور رحمن خان إحدى بنات د. حمدي وحين سئل رفض التعليق.

في الأعوام 1995/1996م نجحت أراكيس وشركائها في استخراج البترول السوداني بكميات متدرجة، ثم دخل شريك جديد شركة أعالي النيل السودانية، ومعها تم عمل المزيد من الأنابيب، وآخرون جدد الأمير سلطان بن عبد الله بن عبد العزيز آل سعود بمعية هارون حامد هارون وعباس صالح تحت أسم حركي “المستثمرون” في 6 يوليو 1995م، عقب فشل المفاوضات في يونيو 1995م مع روسيا الاتحادية لأزمتها المالية الطاحنة،هذه الصفقة مع الأمير كان مهندسها لطفور رحمن خان. وفي 25 أبريل 1997م تم تعيين د. حمدي ومنصور ليجاز كمستشارين لمجلس إدارة أراكيس. وفي أكتوبر 1998م اندمجت أراكيس في شركة طاليسمان بشكل مرضي للطرفين.

هذا تاريخ حمدي!! فعل ثلاثة أشياء 1) هدأ من ثورة صندوق النقد الدولي وطبق شروطه، 2) جلب البترول للسودان، 3) رسم لهم ورقة طريق “للتحرير” تسمى البرنامج الثلاثي للإنقاذ الاقتصادي وغادر الوزارة!! وبالطبع دفعوا لبنك البركة أتعاب متفق عليها مقابل هذه الخدمات وليس مرتبا لدكتور حمدي، فصفة “وزير” هي فقط لتعطيه الصلاحية للجلوس مع الصندوق بينما لم يكن وزيرا بالمعنى التقليدي بل رجل مهمات!!

وعليه، يقع تنفيذ سياسة التحرير على عاتق دولة المؤتمر الوطني وعلى مجلس وزرائها، خاصة صابر محمد حسن، عبد الله حسن أحمد، وعبد الوهاب عثمان..وعابدة المهدي!!

عند هذه النقطة لدينا تعليق وتحليل للجزء السابق في المقالة:

لو كان هنالك من الاقتصاديين في السودان يفهم في الاقتصاد وفي طبيعة الاقتصاد الدولي، لما قتل مجدي محجوب محمد أحمد، ومساعد الطيار جرجس، والطالب اركانجلو داقاو من أبناء الجنوب!! لقد كان الإنقاذيون يتميزون بفقر الخيال والقدرة على التجريد كأن يفهموا أن النقود هي شيء نسبي، في إمكان أي بنك تجاري اختراعها أو إعدامها، ودع جانبا أبا البنوك البنك المركزي!! ولو كانوا يفهمون في الاقتصاد لما ارتعدت فرائصهم لأول تهديد من صندوق النقد الدولي ونفذوا شروطه وأنوفهم مرغمة في التراب. ولكن مع الأسف أصبحت كلمة “اقتصاد” مرادفة لكلمتي “دول الخليج”، وكلمتي “دول الخليج” مرادفة “للأموال”..والأموال هي “الدولار”. هذا تصور الجشع والعاجز والمحدود الذكاء، وأشبه بمن يعتقد أن لفظة “البقرة” هي نفسها “البقرة”.

لو ركل السودانيون الصندوق وطبعوا ما يشاءون من البنكنوت، بشرط أن يخلقوا سوقا وطنية قوية، بحيث يكون الدافع للإنتاج هو الاستهلاك المحلي، والدافع للإنتاج هو الطلب الداخلي وليس التصدير، لما كان حال السودانيين اليوم هذا الحال!! ويمكنهم أن يحققوا التنمية بالجنيه السوداني!! وبالطبع، يجب أن يطبق القانون، وتكافؤ الفرص الخ هذا على العموم، أما على الخصوص فدولة المؤتمر الوطني غير مؤهلة في كل الأحوال أن تقود أو تحكم شعب السودان!! فحتى تحرير الاقتصاد الذي جلبه لهم د. حمدي خانوه بخفية، أقاموا قطاع عام تابع للدولة في الخفاء ينافس القطاع الخاص..ويعتقدون أنهم خدعوا صندوق النقد الدولي!! هنالك حوالي ستمائة شركة حكومية ضخمة لا حسيب ولا رقيب عليها!! ماذا كانت النتيجة، لهطوا كل أموال البترول في بطونهم والقطاع الخاص الحقيقي يتلفت ومدمر، لا صناعة ولا زراعة ولا خدمات!!

يجب أن يعلم القراء أن الدكتور حمدي فعل ما هو في سياق رجال الأعمال وأنجز في فترته التي كلف فيها، ولكنه شخص غير فاسد. ولكن من زاوية أخرى نفس الدكتور حمدي وأمثاله من الاقتصاديين الإسلاميين صابر محمد حسن، ورفعت أحمد عبد الكريم الخ يقومون ويجلسون بورقات في الاقتصاد الإسلامي لتسويق أنفسهم، فمثلا حمدي قرأت له ورقة لمركز صالح كامل للدراسات الاقتصادية، وكتبها في الخرطوم: الأزمة المالية العالمية وأثرها على العالم الإسلامي، الخرطوم 21 أكتوبر 2008م، والأخرى قدمها كبحث مقدم لندوة إتحاد المصارف العربية في المؤتمر المصرفي العربي السنوي لعام 2009، بتاريخ 19-20 ابريل 2009م بدبي، بعنوان: الأزمة المالية والصيرفة الإسلامية، كيف يمنع الفكر الاقتصادي والمصرفي الإسلامي نشؤ أزمة مالية مماثلة؟ وفي الحقيقة هي ورقة واحدة غير فيها حمدي بعض التغييرات الطفيفة. أما د. عبد الوهاب عثمان شيخ موسى وزير المالية السابق، فله مقالة بمجلة المصرفي ربع السنوية التي ينشرها بنك السودان بعنوان طويل: الأزمة المالية العالمية الحلول والبدائل، فشل النظام المالي الرأسمالي الليبرالي الجديد في مواجهة الأزمة المالية العالمية يمهد الطريق أمام البديل الإسلامي!! لو قرأت مقالته تفر بجلدك..من فرط سذاجتها، وفي هذه المقالة يتلبس بمسوح أهل الخليج تحت عباءة “إسلامي”، وإذا وضعت كلمتي “دول الخليج” بدلا من “إسلامي” فلن يفوتك شيء من مقالته.

ماذا يضم هذه الأعمال التي يعطونها زورا عناوين البحوث والدراسات في الاقتصاد الإسلامي؟

الضجة عن وحول الاقتصاد الإسلامي هي مجرد نفاق نختصرها لك في بضعة كلمات:

يعلمونك كيف تجيد السباحة الاقتصادية في بحيرة مليئة بالدولارات “الإسلامية”، أما أن يعلموك السباحة في بحيرة غير دولارية فمن رابع المستحيلات!! وهذه هي الخدعة في الاقتصاديين الإسلاميين. لا يركزون بحوثهم إذا ما كان الدولار هو الحل أو جزءً من الحل، أو هو المشكلة نفسها. وفي تقديرنا المتواضع أن الدولار هو المتسبب في إفقار الشعوب وإشعال الحروب!! لذا ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي هي ظاهرة “خليجية” وقضية فارغة المحتوى والأسس..ونواصل في المقالة الثالثة والأخيرة…

شوقي إبراهيم عثمان
كاتب ومحلل سياسي
[email]shawgio@hotmail.com[/email]