منوعات

اعتكاف العشر الأواخر من رمضان الخلوة الشرعية والسنة المهجورة المنسية


الحمد لله ذي العزة والكبرياء، وصلى الله على محمد خاتم الرسل والأنبياء.

لقد أودع الله في شهر رمضان بجانب الصيام والقيام، وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، كثيراً من الحوافز والأعمال العظام، ورتَّب عليها جزيل الأجر والثواب، نحو إطعام الطعام، والإكثار من تلاوة القرآن، وصلة الأرحام، وفضَّل الاعتمار فيه على سائر الشهور والأيام، حيث قال الناصح الأمين، والرسول الكريم عليه الصلاة وأتم التسليم: “عمرة في رمضان تعدل حجة _ أو حجة معي” (متفق عليه، مسلم رقم [1256]).

والاعتكاف فيه، سيما العشر الأواخر منه، حيث شرع لهم رسولهم فيه تلك الخلوة الشرعية والعبادة التي امتازت على سائر العبادات بان ليلها ونهارها سواء، ولهذا عدَّها بعض العلماء من أشق العبادات لمن وفى بشروطها، وأدَّاها كما كان يؤدِّها الرسول صلى الله عليه وسلم الذي شرعها.

رسولنا صلى الله عليه وسلم أخشى الخلق وأتقاهم لربه ومولاه، حيث لا يدانيه أحد في تحقيق عبوديته لربه، فقد كان مجوداً ومحسناً للفرائض ومكثراً من النوافل، فمن أراد أن يعبد ربه حق العبادة فعليه الاقتداء والتأسي، وليحذر مخالفة أمره بإحداث ما لم ينزل الله به سلطاناً.

كان عليه أفضل الصلاة والسلام، عمله ديمة، وكان إذا عمل عملاً واظب عليه وداوم، وإن فاته شيء منه قضاه، من ذلك لم يترك اعتكاف العشر الأواخر من رمضان منذ أن هاجر إلى المدينة، وإلى أن توفاه الله كما أخبرت بذلك زوجه في الدنيا والآخرة عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما.

ولهذا سارت أزواجه على سيرته، فاعتكفن معه، وبعد وفاته.

فعن عائشة رضي الله عنها: “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثمَّ اعتكف أزواجه من بعده” (متفق عليه).

وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الآواخر من رمضان” (متفق عليه).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبِض فيه اعتكف عشرين يوماً) (البخاري).

عجباً للمسلمين، تركوا الاعتكاف، ولم يتركه نبيهم إلى أن فارق الحياة الدنيا

هذه الخلوة الشرعية، والعبادة المرضية، والسنة المؤكدة المرعية، هجرها كثير من المسلمين، ورغب عنها جل المصلين، وتشاغل عنها حتى العلماء وطلابهم إلاَّ من رحمهم أرحم الراحمين، واستعاض عنها بعض الغافلين الساهين اللاهين بوسائل اللهو واللعب والمجون، فشغلوا ليالي هذه العشر المباركة بما هم عنه سيسألون وعلى ما أضاعوه من الفرص سيندمون.

مما حدى بالإمام محمد بن شهاب الزهري أن يعجب من ذلك وحق له قائلاً: (عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف والنبي لم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضه الله) (الفتح ج4/285).

قال عطاء رحمه الله: (مثل المعتكف كرجل له حاجة إلى عظيم، فجلس على بابه ويقول: لا أبرح حتى تقضي حاجتي، وكذلك المعتكف يجلس في بيت الله ويقول: لا أبرح حتى يغفر لي).

أمَّا بعد..

فما حقيقة الاعتكاف؟، وما حكمه؟، وشروط صحته؟، وما مفسداته؟

الاعتكاف لغة: لزوم الشيء، والمكث فيه حسناً كان أم قبيحاً. قال تعالى: “مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا” (سورة الأنبياء: 52).

ورأى عليٌّ رضي الله عنه جماعة يلعبون الشطرنج، فقال لهم: “ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون”

وشرعاً: لزوم المسجد والمكث فيه بنية التقرب إلى الله تعالى، سواء صحب بصوم أم لا.

مشروعية الاعتكاف

الاعتكاف مشروع، ودليل مشروعيته الكتاب والسنة.

· قال تعالى: }وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ{ [سورة البقرة: 187].

· وقال: }وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ{ [سورة الحج: 26].

· ومن السنة ما سبق ذكره.

وقته: يصلح في كل العام، ليلاً أو نهاراً، ويُستحب في رمضان سيما في العشر الأواخر منه.

حكمه:

الاعتكاف إمَّا أن يكون نذراً فحكمه الوجوب، أو تطوعاً فحكمه الاستحباب.

أمَّا اعتكاف العشر الأواخر من رمضان فحكمه أنه سنة مؤكدة.

دليل النذر: ما صح أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: (كنتُ نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام)، قال: “أوفِ بنذرك”) (البخاري رقم [2032]).

تنبيه:

اعتكاف العشر الأواخر من رمضان ليس من خصائصه. قال الحافظ بن حجر معلقاً على حديث عائشة السابق: (أنه لم ينسخ، وليس من الخصائص) (الفتح ج4/272).

شروط صحة الاعتكاف:

ما من عبادة إلاَّ ولها شروط صحة وشروط وجوب، وما من عبادة إلاَّ ولها تحليل وتحريم، فشروط صحة الاعتكاف هي:

1- الإسلام، وهو شرط لصحة جميع العبادات. قال الشيرازي: (لا يصح من الكافر كالصوم) (المجموع ج6/475).

2- العقل: لقد رُفِعَ القلم عن المجنون حتى يفيق.

3- النية: شرط لصحة جميع العبادات لقوله صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات” الحديث.

4- المسجد: شرط لصحة اعتكاف الرجل اتفاقاً، لقوله تعالى: }وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ{.

أمَّا اشتراط المسجد لصحة اعتكاف المرأة، فقد اختلف فيه العلماء على أربعة أقوال:

1- المسجد شرط لصحة اعتكافها، وإلى هذا ذهب مالك، والجديد من قول الشافعي.

2- لها أن تعتكف في المسجد مع زوجها، وهذا قول أحمد ورواية عند الأحناف.

3- المسجد ليس شرطاً لصحة اعتكافها، بل لها أن تعتكف في مسجد بيتها، وهذا مذهب أبي حنيفة، والقديم من قول الشافعية.

4- يكره لها الاعتكاف في المسجد الذي تُصلى فيه جماعة، وهذا قول الشافعي.

قال سُحنون: (قلت لابن القاسم: ما قول مالك في المرأة تعتكف في مسجد الجماعة؟، قال: نعم. قلت: تعتكف في قول مالك في مسجد بيتها؟، فقال: لا يعجبني ذلك، وإنما الاعتكاف في المساجد التي توضع لله) (المدونة ج1/295).

وقال الماوردي: (ولا فرق بين الرجل والمرأة، أي في أن اعتكافها لا يصح إلاَّ في المسجد) (الحاوي الكبير للمارودي ج3/485).

وقال ابن مودود الحنفي: (والمرأة تعتكف في مسجد بيتها، وهو الموضع الذي أعدته للصلاة، ويشترط في حقها ما يشترط في حق الرجل في المسجد؛ لأنَّ الرجل لما كان اعتكافه في موضع صلاته، فكانت صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد حيِّها، وبيوتهنَّ خير لهن لو كنَّ يعلمن. ولو اعتكفت في المسجد جاز لوجود شرائطه، ويُكره لما رويناه) (الاختيار لتعليل المختار لابن مودود الحنفي ج1/131).

وقال الحافظ بن حجر معلقاً على تبويب البخاري: [باب اعتكاف النِّساء]: (أي ما حكمه؟، وقد أطلق الشافعي كراهته لهنَّ في المسجد الذي تُصلى فيه الجماعة، واحتج بحديث الباب الذي أمر فيه بنقض أخبية ازواجه وترك الاعتكاف في ذلك الشهر، فإنَّه دال على كراهة الاعتكاف للمرأة إلاَّ في مسجد بيتها؛ لأنَّها تتعرض لكثرة من يراها) (الفتح ج4/275).

الذي يترجح لديّ:

أنَّ الأولى للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها الذي تصلي فيه من اعتكافها في أي مسجد تصلى فيه جماعة إلاّ المسجد النبوي؛ لأنَّ النساء مفصولات فيه عن الرجال، اللهم إلاَّ إذا تيسر لها أن تعتكف مع زوجها، أو أحد محارمها في خباء لا تتعرض فيه للأجانب.

نوعية المسجد الذي تعتكف فيه العشر الأواخر

بعد أن أجمعوا على اشتراط المسجد لاعتكاف الرجل، اختلفوا في نوعيته على مذاهب، هي:

1- في كل مسجد تقام فيه الصلوات المكتوبة، وهذا مذهب الجمهور أبي حنيفة، وأحمد.

2 في المسجد الجامع الذي تقام فيه الجمع والجماعات، وهذا مذهب مالك والشافعي.

3- لا اعتكاف إلاَّ في أحد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى. وهذا ما ذهب إليه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.

4- لا اعتكاف إلاَّ في المسجد الحرام والنبوي فقط، وهذا مذهب عطاء.

5- لا اعتكاف إلاَّ في المسجد النبوي، وإلى هذا ذهب ابن المسيب.

الراجح من هذه الأقوال أن اعتكاف الرجل يصح في أي مسجد تُقام فيه الصلوات المكتوبة لعموم قوله تعالى: }وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ{.

أمَّا اعتكاف العشر الأواخر التي قد تتخلَّلها جمعة أو جمعتان، فالأولى أن يكون في مسجد جامع، والله أعلم.

1. الصوم: هذا من الشروط المُختلف فيها بالنسبة للمعتكف في غير رمضان، فمن أهل العلم من قال:

· الصوم ليس شرطاً لصحة الاعتكاف، وهو رواية عن أحمد، ومن الصحابة ذهب إلى ذلك: عليّ، وابن مسعود، واستدلوا بقوله لعمر: “أوفِ بنذرك”، وقد نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام، والليلة ليست مكاناً للصيام.

· الصوم شرط لصحة الاعتكاف، وهذا مذهب أبي حنيفة والأوزاعي، ورواية عن أحمد ومالك من الأئمة، ومن الصحابة عائشة وابن عمر وابن عباس، واحتجوا بما روته عائشة: “لا اعتكاف إلاَّ بصوم” (الدار قطني ج1/200، والحاكم ج1/440، والبيهقي ج4/317).

· يُستحب الصوم للمعتكف وليس شرطاً، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد.

الراجح من أقوال العلماء ومذاهبهم السابقة أن الصوم ليس شرطاً في صحة الاعتكاف لحديث عمر، والله أعلم.

2. إذن الرجل لزوجه ومملوكه: فلا يصح للمرأة أن تعتكف وزوجها شاهد إلاَّ بإذنه، وكذلك المملوك إلاَّ بإذن سيِّده، فإذا اعتكفا بغير إذن فللزوج والسيد إخراجهما، أمَّا إذا أذِنَا فلا يحل لهما الإخراج سواء كان اعتكافهما نذراً أو تطوعاً.

قال الحافظ بن حجر: (قال ابن المنذر وغيره: في الحديث حديث عائشة في نقض أخبية نسائه أن المرأة لا تعتكف حتى تستأذن زوجها، وأنها إذا اعتكفت بغير إذنه كان له أن يخرجها، وإن كان بإذنه فله أن يرجع فيمنعها، وعن أهل الرأي الأحناف إذا أذِنَ لها الزوج ثمَّ منعها أثِمَ بذلك وامتنعت، وعن مالك ليس له ذلك، وهذا الحديث حجة عليهم) (الفتح ج4/277).

أركان الاعتكاف

للاعتكاف ستة أركان، هي:

1. اللبث في المسجد.

2. الجماع.

3. مقدمات الجماع.

4. اجتناب الكبائر.

5. الإسلام.

6. العقل.

7. الطهارة من الحيض والنفاس.

وعليه فإنَّ الاعتكاف يفسد ويبطل بالإخلال بأي واحدٍ منها.

مبطلات الاعتكاف

يبطل الاعتكاف ويفسد بالإخلال بأي واحد من شروطه

· الخروج لغير حاجة الإنسان:

لا يجوز لمن شرع في الاعتكاف واجباً كان أم متطوعاً، مالم يشترط ذلك قبل دخوله في قول بعض أهل العلم، الخروج من معتكفه قبل انقضائه إلاَّ للآتي:

1. لقضاء الحاجة: البول، والغائط، وإن كثر خروجه.

2. لغسل الجنابة، ولغسل الجمعة.

3. للأكل والشرب إن لم يتيسر له ذلم في معتكفه.

4. إذا مرض مرضاً لا يستطيع معه البقاء في المعتكف.

5. إذا تعينت عليه شهادة لا يمكن تأجيلها.

6. إذا خاف على نفسه من حريق، أو هدم، أو سرقة، أو حاكم، أو نحوه في المسجد.

7. إذا أخرجه الحاكم.

8. إذا حاضت المرأة أو نفست.

9. إذا مات زوج المرأة، أو طُلِّقت تخرج للعدة في أرجح قولي العلماء، وقيل: تجلس حتى تتم اعتكافها، وهو قول مالك.

10. إذا خاف المعتكف فوات الحج، خرج وبنى إن كان اعتكافه واجباً، واستأنف إن كان تطوعاً بعد الحج.

11. إذا مات أحد الوالدين، أو الزوجة، أو الولد ولا يوجد من يقوم بالواجب.

12. إذا خرج ناسياً لاعتكافه.

13. إن اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة، خرج للجمعة.

14. إذا جُنَّ المعتكف، أو أغميَ عليه يُخرَج من المسجد.

إذا كان مؤذناً وليس هناك مكبر صوت له أن يخرج من المسجد، ويصعد المنارة.

قال النووي: (أما إذا جُنَّ ولم يخرجه وليُّه من المسجد حتى أفاق لم يبطل اعتكافه، قال المتولي: لكن لا يُحسب زمان الجنون من اعتكافه، وذلك لقول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج إلى البيت الحُجَر إلاَّ لحاجة الإنسان) (الفتح ج4/277).

(فإذا صح المريض وطهرت الحائض رجعا إلى معتكفهما وإلاَّ بطل اعتكافهما، هكذا كل من خرج لحاجة لابد له من الخروج منها لها، رجع بعد انقضائها مباشرة، وإلاَّ بطل اعتكافه) (المجموع ج6/517).

قال الشافعي: ويخرج للغائط والبول إلى منزله وإن بَعُد إن لم تكن هناك دورات مياه في المسجد وقال: وإن كانت عليه شهادة فعليه أن يُجيب، فإن فعل خرج من اعتكافه.

وقال أيضاً: (وإن مرض، أو أخرجه السلطان واعتكافه واجب، فإذا برئ أو خليَ عنه بنى، فإن مكث بعد برئه شيئاً من عذر ابتدأ) (الحاوي الكبير ج3/496-497).

وقال ابن القاسم: (وسألت مالكاً عن المعتكف: أو يخرج من المسجد يوم الجمعة للغسل؟، فقال: نعم، لا بأس بذلك، قال: وسئل مالك عن المعتكف تصيبه الجنابة، أيغسل ثوبه إذا خرج فاغتسل؟، فقال: لا يعجبني ذلك، ولكن يغتسل ولا ينتظر غسل ثوبه وتجفيفه.

قال: وسألت مالكاً عن المعتكف: أيخرج ويشتري لنفسه طعاماً إذا لم يكن له ما يكفيه؟، فقال لي مالك مرة: [لا بأس بذلك، ثمَّ قال بعد ذلك: لا أرى ذلك له، قال: وأحبَّ إليَّ إذا أراد أن يدخل اعتكافه أن يفرغ من حوائجه]) (المدونة الكبرى ج1/292-293).

لا يخرج المعتكف لـــ:

1. عيادة مريض ولا يعود مريضاً وإن كان معه في المسجد.

2. ولا لتشييع جنازة، يقول مالك: وإن وصلته الصفوف.

3. ولا لتعزية مُصاب.

4. ولا لتهنئة أحد.

5. ولا يخرج للإتيان بعمرة وإن كان معتكفاً بالحرم.

6. ولا يطوف بالبيت إن كان بالحرم.

· الجماع: من مبطلات الاعتكاف المجمع عليها الجماع ومقدماته، لقوله تعالى: }وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون{ [سورة البقرة: 187].

نقل ابن المنذر الإجماع على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع.

وروى الطبري وغيره من قتادة في سبب نزول الآية: كانوا إذا اعتكفوا فخرج الرجل لحاجته، فلقيَ امرأته جامعها إن شاء، فنزلت الآية.

إلى أن قال: واتفقوا على فساده بالجماع، حتى قال الحسن والزهري: من جامع فيه لزمته الكفارة يعني الكفرة العظمى.

وعن مجاهد: (يتصدق بدينارين من الذهب واختلفوا في غير الجماع، ففي المباشرة أقوال ثالثها إن أنزل بطل، وإلاَّ فلا) (الفتح ج4/271-272).

هل جماع الناسي يفسد الاعتكاف؟

فرَّق بعض أهل العلم بين جِماع العامد والناسي، فأبطلوا اعتكاف العامد بالجماع، ولم يبطلوا اعتكاف الناسي، وسوَّى بينهما فريق.

جاء في المدونة: (قلت: أرأيت إن جامع ليلاً أو نهاراً في اعتكافه ناسياً أيفسد اعتكافه؟، قال: نعم ينتقض ويبتدئ، وهو مثل الظهار إذا وطئ فيه) (المدونة ج1/291).

· مقدمات الجماع: كالقُبْلة ونحوها، إن كانت بشهوة فقد بطل اعتكافه، وإنْ لم تكن بشهوة فلا يبطل.

صح عن عائشة رضي الله عنها: (وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلاَّ لحاجة إذا كان معتكفاً)، فدَّل على أنَّ الملامسة والمباشرة من غير شهوة لا تبطل الاعتكاف.

· الردة: إذا ارتد المسلم بطل اعتكافه، قال تعالى: }لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ{ [سورة الزمر: 65].

· ارتكاب الكبائر: من ارتكب كبيرة من الكبائر، كالزنا، والسرقة، والغيبة، والنميمة، أو استمع إلى الأغاني والموسيقى، والسماع الصوفي مثلاً فقد بطل اعتكافه.

قال ابن شهاب الزهري: (وإن أحدث ذنباً مما نهى عنه في اعتكافه، فإن ذلك يقطع عنه حتى يستقبله من أوله) (المدونة ج1/291).

قال القرطبي: ( والمعتكف إذا أتى كبيرة فسد اعتكافه؛ لأنَّ الكبيرة ضد العبادة، كما أن الحدث ضد الطهارة، وترك ما حرَّم الله تعالى عليه، أعلى منازل الاعتكاف في العبادة، قاله ابن خويز منداد عن مالك) (القرآن للقرطبي ج2/336).

· الجنون والإغماء: إذا جُنَّ المعتكف فقد بطل اعتكافه، وإذا أفاق عاد.

الحيض والنفاس: إذا حاضت المرأة فسد اعتكافها، وكذلك إذا نفست، وعليها الخروج من المسجد، فإذا طهرت عادت، أمَّا المستحاضة فلا تخرج ولكنها تؤمر بأن تتحفظ…: “ويسن للمعتكفة إذا حاضت أن تمكث مدة الحيض في خباء تضربه في رحبة المسجد، إلاَّ أن تخشى ضرراً فتمكث في بيتها” (المحرر في الفقه الحنبلي ج1/233).

ما يُكره للمعتكف

يُكره للمعتكف أن يشتغل بغير ذكر الله، وما لابد له منه من حاجات وليحذر، سيما:

1. الجدل والمراء.

2. المزاح.

3. السباب والفاحش من القول.

4. اللغو.

5. النظر إلى المحرمات.

6. الاستماع إلى الأخبار وقراءة الصحف.

7. الصمت عن الكلام يوماً إلى الليل تعبداً.

قال ابن قدامة: (ويجتنب ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال، ولا يكثر الكلام؛ لأنَّ من كثر كلامه كثر سقطه، وفي الحديث: “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه” (الترمذي في الزهد، واحمد في المسند ج1/201).

ويجتنب الجدال والمراء، والسباب، والفحش، فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف ففيه أولى، ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك.

إلى أن قال:

وقال عليّ: أيما رجل اعتكف فلا يساب، ولا يرفث في الحديث، ويأمر أهله بالحاجة وهو يمشي، ولا يجلس عندهم، رواه الإمام أحمد) (المغنى ج4/480).

اشتراط المعتكف قطع اعتكافه، أو الخروج منه مما لابد منه.

اختلف أهل العلم رحمهم الله في الاشتراط للمحرم بالحج والعمرة، وللمعتكف، فأجاز ذلك الشافعي، ومنع منه مالك.

والراجح جوازه لقوله صلى الله عليه وسلم لضباعة عندما قالت له: أريد الحج وأنا شاكية: “حجي واشترطي” الحديث.

قال مالك: (لم أسمع أن أحداً من أهل العلم يذكر أن في الاعتكاف شرطاً لأحد، وإنما الاعتكاف عمل من الأعمال كهيئة الصلاة والصيام والحج، فمن دخل في شيء من ذلك فإنه يعمل فيه بما مضى من السنة في ذلك، وليس له أن يحدث في ذلك غير ما مضى عليه الأمر بشرط يشترطه أو بأمر يبتدعه، وإنما الأعمال في هذه الأشياء بما مضى فيها من السنة، وقد اعتكف رسول الله، وعرف المسلمون سنة الاعتكاف) (المدونة ج1/292-293)، يعني ولم يشترطوا.

وقال الشافعي: (ولا بأس أن يشترط في الاعتكاف الذي أوجبه بأن يقول: إن عرض لي عارض خرجت) (الحاوي الكبير ج3/488).

وقال الماوردي: (وجملة الاعتكاف ضربان: واجب وتطوع، فأمَّا التطوع فلا يفتقر إلى شرط الخيار في المقام على اعتكافه والخروج منه، وأمَّا الواجب فهو النذر، وهو على ضربين:

1. مطلق بغير شرط.

2. ومقيد بشرط.

فالمطلق بغير شرط فهو ممنوع فيه من الخروج إلاَّ لحاجة الإنسان، فإن خرج لغيره بطل اعتكافه، وأمَّا المقيد بشرط، فهو على ضربين:

1. أحدهما أن يشترط قطع اعتكافه.

2. والثاني أن يشترط الخروج منه) (الحاوي الكبير ج3/489-490).

قال ابن قدامة: (… وممن أجاز أن يشترط العَشَاءَ في أهله الحسن، والعلاء بن زياد، والنخعي، وقتادة، ومنع منه أبومجلز، ومالك، والأوزاعي).

قال مالك: (لا يكون في الاعتكاف شرط، ولنا: أنه يجب بعقده، فكان الشرط كالوقوف، ولأنَّ الاعتكاف لا يختص بقدر، فإذا اشترط الخروج، فكأنه نذر القدر الذي أقامه، وإنْ قال: متى مرضت، أو عرض لي عارض خرجت، جاز شرطه).

ما يُباح للمعتكف

يُباح للمعتكف ما يأتي:

1. التنظف وتغيير الثياب، ولبس ما شاء منها.

2. الأكل والشرب في المسجد.

3. الحلق وتقليم الأظافر.

4. التطيب.

ما يُستحب للمعتكف:

1. يستحب للمعتكف أن يعتكف في خباء وستر، وإن لم يتمكن من ذلك كما هو الحال في الحرمين الشريفين وفي غيرهما فعليه أن يلزم مكاناً ساتراً معيناً، واحداً، لا يتحرك منه إلاَّ لضرورة، وعليه أن يتجنب المداخل، ومناطق الصلاة والزحام ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

2. المحافظة على الصلوات المكتوبة، والسنن الرواتب، والإكثار من النوافل.

3. لا يزال لسانه رطباً بذكر الله.

4. الاجتهاد في الطاعات عموماً والاكثار منها.

5. لا يشتغل بما لا حاجة له به.

6. يعتزل التدريس والافتاء.

7. ألاَّ يصحب معه جوَّالاً.

8. أن يقلل الكلام.

9. يحذر المساجد التي يكثر فيها المعتكفون، فالاعتكاف خلوة، والخلوة لا تتحقق مع الكثرة.

10. الأولى ان يعتكف في مسجد يقل معارفه وأصحابه فيه.

متى يدخل معتَكِف العشر الأواخر من رمضان معتَكَفَه، ومتى يخرج منه؟

متى يدخل معتَكَفَه؟

قولان لأهل العلم:

1. يدخل بعد صلاة الغداة من يوم واحد وعشرين من رمضان.

2. يدخل قبل غروب شمس ليلة إحدى وعشرين من رمضان.

متى يخرج من المعتَكَف؟

قولان كذلك لأهل العلم:

1. يخرج بعد ثبوت هلال شهر شوال.

2. يخرج بعد أن يصلي العيد.

استدل القائلون بأن المعتكف يدخل معتكفه بعد صلاة الغداة ليوم واحد وعشرين من رمضان وهذا مذهب الأوزاعي والليث، والثوري، وأحمد، وإسحاق من الأئمة بحديث عائشة رضي الله عنها: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثمَّ دخل معتكفه” (صحيح سنن ابن ماجه للألباني رقم [3771]).

وعنها كذلك: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان، فإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي اعتكف فيه” (البخاري كتاب الاعتكاف رقم [2041]).

وهذا هو الراجح لهذين الأثرين الصحيحين، الصريحين.

وحجة من ذهب إلى أنه يدخل قبل غروب شمس ليلة إحدى وعشرين من رمضان وهم الأئمة الأربعة وغيرهم حتى تكتمل له العشر الأواخر، واوَّلوا حديث عائشة رضي الله عنها بتأويلات مختلفة، كلها فيها نظر.

قال الترمذي معلقاً على حديث عائشة رضي الله عنها السابق: (والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، يقولون: إذا أراد الرجل أن يعتكف صلى الفجر ثمَّ دخل معتكفه وهو قول أحمد رواية له وإسحاق بن إبراهيم. وقال بعضهم: إذا أراد أن يعتكف فلتغبِ الشمس من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها من الغد، وقد قعد في معتكفه، وهو قول الثوري ومالك بن أنس) (صحيح سنن الترمذي للألباني ج1/238).

أمَّا الخروج فإذا غربت شمس آخر يوم من رمضان، فقد انقضت العشر الأواخر وجاز للمعتكف الخروج، واستحب بعض أهل العلم له أن يبقى في معتَكَفَه حتى يصلي العيد، وممن استحب ذلك مالك، وغيره.

قال مالك: (ثمَّ يقيم فيخرج حتى يفرغ من العيد إلى أهله، وذلك أحبَّ الأمر إليَّ فيه) (المدونة ج1/300).

قال القرطبي: (استحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى، وبه قال أحمد. وقال الشافعي والأوزاعي: يخرج إذا غابت الشمس، ورواه سُحنون عن ابن القاسم؛ لأنَّ العشر يزلن بزوال الشهر، والشهر ينقضي بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان) (المصدر السابق).

من العجيب الغريب حرص كثير من المسلمين على المحدثات، نحو: حرصهم على الاعتمار في ليلة سبع وعشرين من رجب، وإحياء ليلة النصف من شعبان وصوم نهارها، ويفرطون ويتهاونون في السنن المؤكدات، هذا على الرغم من التحذير الشديد والوعيد الأكيد في النهي عن الابتداع في الدين، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد” الحديث.

وحديث: “إياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كل محدثة بدعة” الحديث.

ولله در إمام دار الهجرة أنس بن مالك، فقد كان كثيراً ما ينشد:

وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع

أخي الحبيب، لإن آثر البعض إحياء الليالي الرمضانية، والأندية الليلية، واللعب بالورق، والجلوس تحت شاشات الفضائيات، وبالذهاب إلى أسواق الدنيا للشراء وللتسكع، فاختر لنفسك ما اختاره رسولك من إحياء هذه الليالي بصلاة القيام، والإكثار من تلاوة القرآن، وإطعام الطعام، وصلة الأرحام. أمَّا عشرته الأواخر إن استطعت أن تخلو فيها بربك ،وتزكي فيها نفسك وتحي بها سنة نبيك صلى الله عليه وسلم فاعتكفها أو ما تيسر منها لتكن إن شاء الله من الفائزين.

اللهم وفقنا وجميع إخواننا المسلمين لما تحب وترضى، وجنبنا الذلل والابتداع والردى.

وصلى الله وسلم على إمام الرحمة والهدى، وعلى آله وصحبه الأصفياء، وعلى من تبعهم باحسان إلى يوم اللقاء. د. الأمين الحاج محمد أحمد –مجلة البيان