هنادي محمد عبد المجيد

نحن والرّدى‏


نحن والرّدى‏
يا زَكيّ العودِ بالمِطرَقة الصمّاء والفأسِ تَشَظّى .. وبنيرانٍ لها ألفُ لسانٍ قد تلظّى
ْضَعْ على ضَوْئِكَ في الناس اصطِباراً ومَآثرْ .. مثلما ضوّعَ في الأهوالِ صبرا آل ياسر
ْفلئِنْ كُنْتَ أنتَ عَبِقْ .. فاحْتَرِق
يَا مَنايَا حَوّمِي حوْل الحِمَى واصطَفي .. كُلّ سَمْحَ النفسِ بَسّامَ العَشِيّاتِ الوَفِي
الحِليم العَفِّ كالأنْسامِ روحاً وسَجَايا .. أَريحيّ الوجهَ والكَفّ إفتِراراً وعَطَايا
فإذا لاقاكِ بالبابِ بشوشاً وحَفِي .. بضميرٍ ككتابِ اللهِ طاهرِ .. انْشِبي الأظفارَ في اكتافهِ واختَطِفي
ْوأَمانَ اللهِ مِنّا يا منايا كُلّما اشتَقْتِ لمَيمونِ المُحيّا ذي البَشائِرِ .. شَرِّفي تَجدينا مَثلاً في الناسِ سَائِرْ نَقْهَرُ المَوْتَ حَياةً ومَصَائِر
هذه اجنابُنا مكشوفةً فليرمِ رامٍ .. هذه أكبادُنا لُكْها وزغردْ يا حقود .. هذه أضلاعُنا مَثلومة وهيَ دَوامي
وعلى النّطْعِ الرؤوسْ .. فاسْتَبدّي يا فؤوسْ .. وادخُلي أَبياتاً واحتَطِبي
وأَديري يا مَنايا كُؤوساً في كُؤوسْ .. مِنْ دِمانا واشرَبي
ما الذي أقسى من الموت ؟ فهذا قد كشفنا سرهُ .. واستسغْنا مُرّهُ
صَدِئَتْ آلاتُهُ فِينا ولا زِلْنا نُعاقِرْ .. مَا جَزِعْنا إنْ تَشَهّانا ولمْ يَرْضَ الرحيل
ْفَلَهُ فِينا اغْتِباقٌ وَاصطِباحٌ ومَقيلْ ، آخِر العُمْرِ قصيراً أمْ طويل
كَفَنٌ مِنْ طَرَف ِالسُّوقِ وَشِبْراً في المقابر ما عَليْنا
إنْ يَكُنْ حُزْناً فَلِلْحُزْنِ زَبالاتٌ مُضيئة ، أو يَكُنْ قَصْداً بِلا مَعْنَى ، فَلِلْمَرْءِ ذَهاباً بَعد جيئَة
أوْ يَكُنْ خِيفَة َمَجْهولْ .. فلِلْخَوْفِ وِقاءٌ وَ دَريئَةْ .. مِن يَقينٍ ومَشيئَة
ْفَهَلُمِّي يا مَنايا جَحافِلَ .. تَجدينا لكِ أندادَ المَحافلْ .. القَرى مِنّا وفِينا لكِ والديوانُ حافل
ٌولنا صَبْرٌ عَلى المكروهِ – إنْ دامَ – جَميل
هذه أعمالُنا مَرْقومَة بالنّورِ في ظَهْرِ مَطَايَا ، عَبَرَتْ دُنْياَ لأُخرى تَسْتَبقْ .. ، نَفَذَ الرّمْلُ عَلى أَعْمَارِنَا إلاّ بَقايا
تَنْتَهِي عُمْراً فَعُمْراً وَهِيَ نَدٌ يَحْتَرِقْ .. ما انحَنَتْ قَامَاتُنَا مِنْ حَمْلِ أثْقالِ الرزايا ، فلنا في حَلَكِ الأهوالِ مَسْرَى وطُرُقْ
فإذا جَاءَ الرّدى كشّر وجها مُكْفَهِراً ، عَارِضاً فِينا بسيفٍ دَمَوِيِّ وَ دَرَقْ .. ومُغيرا
ْبِيَدٍ تَحُدُّنَا .. لَمْ نُبْدِ لِلموْتِ ارْتِعاداً أَوْ فِرَق
ُنَتْرُكُ الدُّنْيَا وَلَنَا إِرْثٌ مِنْ الحِكْمَةِ وَالحُلْم ِ وَ حُبَّ الكادِحينَ .. وَوَلاءٌ حينما يَكذِبُ أهليهِ الأَمين
ْوَلنا في خِدْمَةِ الشَّعْبِ ، عَرَق
ْهكذا نحنُ فَفَاخَرْنا وقد كان لنا أيضا سؤالٌ وجوابْ .. ونُزوعٌ لِلذي خَلْفَ الحِجاب
بُرْهَةٌ مِنْ سَرْمَدِ الدهرِ أقمْنَا وَمَشَيْنا ، ما عَرفنا بم أو فيم أتينا وانتهينا
ْوخبِرْنا تَفَهَ الدنيا وما مِنْ بَهْرَجٍ فِيها حَقير
عَرَضاً فَانٍ لفانينَ فَمَا نملِكْهُ يفلِت مِنْ بَينِ يَديْنا ، أو ذَهَبْنا دونهُ حين بَقي
ْفكَما كانَ لديْنا ، صارَ ملكاً لسِوانا ، وغرورٌ لغريرٍ غافلٍ يَخْتالُ في الوَهْمِ الهُوَيْنَى ، في حُبور
ْرُبَّ من يَنهلُ مِنْ بَحْرِ الغِوايات ظَمِيْ .. والذي يَمْلِكُ عَيْنَيْنِ ولا لُبٌ عَمِي
ْوالذي تَفْتِنَهُ الدنيا ولم يَدْرِ المَصيرْ .. أبلهٌ يَمْرَحُ في القَيْدِ وفي الحُلُمِ يَسير
ْرَيْثَمَا توقِظُه السقْطَةُ في القاعِ وَلا يَعرِفُ أيُّنا ، كُلّ جِيلٍ بَعْدَهُ جِيلْ ، ويَأتي بَعد جيل
ْبَلِيَتْ جِدَّتُهُ ، مُرْتَقِباً في غِبطةٍ أو غَفلةٍ أو قلقٍ .. فَقْعَةُ الآمالِ في جيلٍ بَديل
ْطَالعٌ أو طَامعٌ مُسْتَبِق
أَمْسُ قَدْ كُنّا سُقَاةُ القَوْمِ بالكَأسِ المَريرْ .. وغَداً يَحْمِلُنَا أبناؤنا كَيْ نَسْتَقي
ْفَالذي تَخَلّى لَهُ مُضيفُهُ الحَيُّ سَيُدْعَى لِرَحيل
ْحِينَ يَبْدو قَادِمٌ في الأُفُقِ .. وَكِلا القائِم ِوَالقادِمِ في دَفْتَرِها ابنُ سَبيل
ِكُلّ طِفْلٍ جَاءَ للدُنْيا – أخي – مِنْ عَدم .. مُشْرِقُ الوَجْنَةِ ضَحّاكَ الثَنايَا وَالفَم
ِيُسْرِجُ الساعاتِ مَهْراً لإقتحامِ القِمَم
ْسابحاً في غُرّة للهِرَمِ .. فإذا صاح َبِه الموْتُ أقدم
كان فَوْتُ الموتِ بَعضُ المُستحيل
ْعَجَبي مِنْ رِمّة تَرفُلُ بَين الرمم نَسيَتْ سوءَ مآلِ الأُمَم!
ْوَسِعَتْ في باطلِ عُقْباهُ غَيْرَ الأَلَمْ وَمَطيفُ الندَم والسأْم
ْغُصّةُ المَوْت ِ.. وَإنْ مُدّ لَها في فُسحة العيش قليل .. فالذي يَعقُبُه الرمس وإنْ طالَ مَدى ليس طويل
والسؤال الحقُّ ماذا بعدُ ؟ ماذا بعد في هذا السبيل يرتَجيهِ الآدَمي؟
أَإِذا مِتْنَا انتهَينا للأَبَد ؟ غَيرَ ما أسماهُ دهريٌ طبيعة ؟
أَمْ بدأنا من جديد ، كيف أو أين سؤالٌ هائلٌ لن نستطيعه ؟
أفمن يذهب عنا سيعودُ مثلما تَزعُم شيعةٌ ، ثُم هل عاد أحد ؟
أم له في دارهِ الأخرى خُلود .. بعد أن يسترجع الله الوديعة ، بكتاب وأمد
ضَلّ مَنْ يَبْحَثُ في سِرّ الوجودِ بالذي أنكرَ بالبارئ أو فيه أعتقد
فاجعلِ الموتَ طريقاً للبقاءِ ، وابتغِ الحقّ شريعة ، وأسلُكِ الفَضْلَ صنيعة
إنّ للفضلِ وإنْ مَاتَ ذووهُ لضياءٌ ليسَ يَخبو ، فاسألوا أهل النُّهَى
رُبَّ ضَوءٍ لامِعٍِ ٍ مِن كوكبٍ حيثُ انتهى .. ذلك الكوكبُ آلافاً وآلافاً سِنينا
يا رياحَُ الموتِ هُبّي إنْ قَدِرتِ اقتلعينا
ًاعمِلي اسيافك الحمراء في الحيّ شِمالاً ويَمينا
َقَطّعِي مِنّا الذؤاباتُ فَفي الأرضِ لنا غاصَتْ جُذور .. شَتتينا فلكم عاصفةٌ مرّت ولم تنْس أيادينا البذور
َزَمجري حتى يُبَحُّ الصوتُ .. حتى يَعقُبُ الصّمتُ الهدير
اسحقينا وامحقينا تجدينا .. نحنُ أقوى مِنْكِ بأساً ما حيينا
وإذا مِتْنا سَنحيا في بَنينا ، بالذي يبعث فيهم كل ما يَبرق فينا ، فلنا فيهم نشور
ًطفلنا حدّق في الموت مَلياً ومراراً .. أَلِف الأحزانَ تأتينا صغاراً وكبارا
ًوسَرى الدمعُ غزيراً ورعى النوم غِرارا
ْورأى والده يخطر للموت ونعشاً يتوارى .. لن يَراهُ مَرة ثانية قط إلى يوم الحساب
ْذاكراً عنا حناناً وحديثاً وابتساماتٍ عذابْ ،.. كشموسٍ لا يني يَأمَلُ أنْ يُشرِقَ مِنْ بابٍ لباب
كُلّ يومٍ ولنا في البيتِ مَأتم .. وصغيرٌ ذُبِحَتْ ضِحكتُه يومَ تَيَتّم
كُلّما مَرّتْ بِنا داهية تسألُ عَيناه ُعنِ الشرّ المُغير
ويرى من حوله أمراً مُريباً وغريباً ورهيباً فيثور
أمه في جَلدٍ تدعوهُ أنْ يَسْكنَ لكنْ صَوْتَها فيه اضطراب
واكتئاب وهو يدري .. فعيونُ الأم للإبن كتاب
وهو بالمحنة والموت الذي جندلنا جَدُّ بَصير
حُلمُه صارَ حَكيماً وهو طفلٌ في سرير فهوَ يزدادُ بما حاق بنا حُزناً وحَزماً ووقار
وانفعالاً كُلّما عاث بنا دهراً وجار.. هكذا يطرق فولاذ البطولاتِ ويُسقي بالعذاب
ًفله في غده يومٌ كبير يومَ أن يدلجَ في وادي طوى .. يقبسُ نارا
ًوألجاً هولاً مهولاً ، خائضاً نقعاً مثاراً ، وغمارا
ًضاحِكاً في حَنكِ الموتِ على الموتِ عتوا ًواقتدارا
وقدَْ استُلَّ كسيف وامض جُرحاً عميقاً في الضمير
خَبّراني – لهفَ نفسي – كيف يَخشى الموتَ مَن خاشنَهُ الموتُ صغيراً ؟
في غدٍ يعرفُ عنّا القادمون .. أي حُبٍ قدْ حمَلناه لهُم
في غدٍ يحسب فيهم حاسبون .. كم ْأيادي أسلفَتْ مِناّ لهم
في غدٍ يحكون عن أنّاتِنا ، وعن الآلام في أبياتِنا ، وعن الجُرح ِالذي غَنّى لهم
كُلّ جُرْحٍ في حنايانا يهونْ حينَ يَغدو مُلهِماً يوحي لهم
جُرحنا دام ونحنُ الصامتون ، حُزننا جَمٌّ ونحنُ الصابرون
فابطشي ماشِئْتِ فينا يا مَنون .. كمْ فتى في مَكّةَ يُشبِهُ حَمْزَةَ ؟
بالخشوعِِ ِ المحضِ والتقديسِ والحُبِّ المُقيم .. واتضاعٌ كاملٌ في حَضْرَةِ الروحِِ ِ السماوي الكريم
التحيّاتُ لها ،، وبشوقٍ أبدي عارمٍ ٍ ينزِفُ مِنْ جُرْحٍ أليم
وامتنانٍ لا يفيهِ قُدْرَة ُ قَوْلٍ لا ولا فِعْلُ حَديثٍ أو قديم
التحيّاتُ لها ،، ليْتَ لي في الجَمْرِ والنيران وَقْفَة .. وأنا أشدو بأشعاري لها
ليْتَ لي في الشوكِ والأحجارِ والظُّلمة زَحْفَة .. وأنا أسعى بأشواقي لها
ليْتَ لي في زمهرير الموت رجفة ، وأنا ألفظ أنفاسي لها
ليْتَ لي من ألمٍ ٍ طاغ ٍمحفّة .. وأنا أحمل قُربانا لها وهدية
فأنادي بإسمها الحلو بلهفة .. لك يا أم السلام وهي ترنو لي وتصفو للتحية بإبتسام
وجبيني في الرِّغام .. التحيات الزكيّات لها نفس زكية
رَسمُها في القلب كالروض الوسيم .. صنعتنا من معانيها السنية
وستبقى مَنبع النور العظيم
يا قبوراً في عراءِ الله حسبُ الأبدية .. إنكم من ذوقها العالي صميم
سنوات عشتموها اينعت .. حَفْلى بالخيروالبرّ الحقيقي
ومضيتم فتركتم أثرا ً.. نَبْشَ اسماعيلَ في القَفْرِ السحيق
يا أحبّائي ويا نبضَ عُروقي .. كنتم القدوة بالحُبّ الوريق
فاهنئوا انتم كما نحن على ذاك الطريق
رُبّ شَمسٍ غربتْ والبدرُ عنها يُخبرْ.. وزهورٌٌ قد تلاشتْ وهيَ في العِطرِ تَعيش
نحن اكفاء لما حلّ بنا بل أكبر .. تاجُنا الأبقى وتندكُّ العُروش
ولمن ولّى جَميلٌ يُؤثرْ ولمنْ ولىّ حديثٌ يُذكر
الراحل المقيم فينا بكلماته الصادقة العذبة القوية الجزلة القدير / صلاح أحمد إبراهيم ،الشاعر السوداني الذي أثبت أن السودان امتداد العروبة والأصالة ، أثبت لنا ببلاغة منقطعة النظير ، أن المبدعين يخلدون ولا يخبوا نجمهم بما قدموا من آثار نحتوها بفكرهم وفنهم ومواقفهم ، فالتحية لكل مبدع لازال يحيا بيننا أو فارقنا إلى تلك الدار التي تنتظرنا .
هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]

تعليق واحد

  1. تصحيح خطأ نحوي : مثلما ضوّع في الأهوالِ صبراً آل ياسر .