تحقيقات وتقارير

مصــانع السكر.. طــعم الحلـــو أصـــبح مــــراً


[JUSTIFY]{ قام المهندس «السميح الصديق النور» وزير الصناعة بأول جولة تفقدية على مصانع السكر.. قبل الدقيق والأسمنت والغزل والنسيج والحلويات والصابون..الشيء الذي يشير إلى أولويات الزراعي الذي أسندت إليه مهام الصناعة!! وشملت زيارة المهندس «السميح» في غضون (72) ساعة أربعة مصانع، اثنان حكوميان (سنار) و(عسلاية)، واثنان شراكة هما (كنانة) و(النيل الأبيض).. وتبدت من خلال الزيارة معالم أزمات صناعة السكر حلو المذاق، ليصبح عند الحكومة مراً لما تواجهه من حصار قطع عنها مدخلات الصناعة من قطع غيار وتكنولوجيا فنية متقدمة!! والمفارقة الكبيرة بين واقع (كنانة) من حيث التطور الفني والتقانة ومستوى دخل الأفراد، وواقع المصانع الحكومية التي ترزح تحت وطأة المعاناة وشح المال والتخلف التكنولوجي، وبين الحداثة وبؤس الحال وسوء المآل.
سعى الوزير الجديد إلى طمأنة العاملين في المصانع الحكومية بأن الدولة لن تتخلى عنهم وتتركهم في صقيع القطاع الخاص تشريداً ومستقبلاً مجهولاً، مع أن مصانع السكر التي واقعها رغد في العيش على صعيد الإنسان، خرج أغلب كفاءاتها من رحم الحكومة الولود، حيث تمنح الوظيفة الحكومية الخبرة والتدريب وتحرم صاحبها من العائد المجزي والراتب الذي يكفيه.
في مصنع (سكر سنار) بدأت مشاكل صناعة السكر تطل برأسها، حيث تناقص إنتاج المصنع بسبب مدخلات الصناعة وتعدي الرعاة على المساحات المزروعة.. وحينما طالت الرعاة الإجراءات الأمنية الصارمة كانت ردة فعلهم أن حرقوا (300) فدان من القصب أدت إلى تناقص الإنتاج (15) ألف طن، وأدى ضعف إنبات القصب وتقلص المساحات المزروعة إلى إنتاج لا يتجاوز الـ(70%) من الطاقة الكلية.. كما أن النقص في المهندسين بسبب البيئة الطاردة وضعف المرتبات والمخصصات، جعلت المصانع الحكومية منطقة طرد والمصانع الخاصة منطقة جذب!!
وقال «مهدي بشير» عضو مجلس إدارة شركة (السكر السودانية) وأحد الكفاءات المرجعية في مجال صناعة السكر، قال إن سياسات فتح الباب أمام التجار والشركات لاستيراد السكر من الخارج أغرقت السوق بالإنتاج الأجنبي المستورد من البرازيل وكوبا، ويعاني السكر السوداني من الكساد، لدرجة أن شركة (السكر السودانية) تواجه الآن معضلة كبيرة في صرف رواتب العاملين في المصانع الحكومية من موظفين وعمال ومهندسين.
وفي ظل إغراق السوق بالسكر الأجنبي وكساد السكر المنتج محلياً، يقول الوزير «السميح الصديق» إن جملة المبالغ المالية التي تنفقها الخزانة العامة على السكر المستورد تبلغ من (200-300) مليون دولار في العام ليأتي السكر في المرتبة الثالثة بعد القمح والجازولين لواردات البلاد.. ورغم الصورة السوداوية التي رسمها العاملون في المصنع خلال اجتماعهم بوزير الصناعة، إلا أن مصنع (سكر سنار) يضخ في شرايين الخزينة العامة للدولة ما يصل إلى نحو (10) ملايين دولار أمريكي في العام، ووضع الوزير أولوياته أمام طاولة اجتماع مديري الأقسام وقيادات المصنع ممثلة في زيادة الإنتاج و(تمسيخه) وتقليل التكلفة.
} (كنانة) قصة الهندي النصاب!!
{ الوجه الوضيء لشركة (سكر كنانة) خدشها الحديث عن نصاب هندي نجح في فك طلاسم شفرة حسابات الشركة واستولى على مبالغ مالية طائلة.. ذلك ما جاء في الصحافة المحلية وحملته المواقع الإسفيرية وصدقه المواطن السوداني، بتنقاسي السوق، وديم عرب ببورتسودان، وسودري، والخرطوم.. ولكن قبل أن نغرق في تفاصيل (كنانة) وشعابها ومشكلاتها وإشراقاتها، سألت الدكتور «محمد التيجاني المرضي» العضو المنتدب للشركة- الوصف العربي لمنصب المدير العام- فقال «المرضي» بثقة في النفس والموقف إن كل ما أثير حول القضية عار من الصحة من حيث النتائج والحيثيات، فالهندي الذي أشيع استيلاؤه على أموال من (كنانة) لم يحصل على دولار واحد، وهو موظف في قسم إدارة الحاسوب، والشركة لديها قسم تأمين دقيق جداً لمراقبة حركة الحسابات والدخول والخروج.. وقد لاحظنا من خلال قسم التأمين أن الهندي المذكور حاول الدخول لحسابات بعض الأفراد ولكنه فشل في ذلك.. وعندما كرر المحاولة أكثر من مرة أصدرنا قراراً بإيقافه عن العمل لأنه أصلاً يفترض أن يذهب في إجازته السنوية، وغادر الرجل السودان في إجازته العادية لكنه أبدى انزعاجاً شديداً من اكتشافنا لمحاولته اختراق بعض المواقع المؤمنة في الشركة.. وتفاجأنا بنشر قضية من وحي خيال أحد الصحافيين عن وقائع لا وجود لها.. وتم اتخاذ إجراءات لحماية سمعة (كنانة)!! انتهى حديث العضو المنتدب «محمد التيجاني المرضي»، ولكن أحاديث (كنانة) لا تنقضي، فالمساحة المحدد حصادها هذا العام (80) ألف فدان، متوسط إنتاج الفدان (42) طناً لتبلغ جملة الإنتاج المتوقع بحلول أبريل القادم (355) ألف فدان، وإنتاج (125) ألف طن من المولاص، وتتوقع الشركة زيادة كبيرة في إنتاجية السكر دون الوصول إلى رقم (450) ألف طن الذي بلغته الشركة قبل عشرات السنين.. والشركة التي بلغ عمرها الآن (36) عاماً أضيفت إلى مساحتها المزروعة (2000) فدان هي الامتدادات الجديدة.. والتربة المزروعة في (كنانة) هي تربة النيل الأزرق قليلة الأملاح عالية الخصوبة رغم وقوع (كنانة) جغرافياً في ولاية النيل الأبيض.
وتبدت المفارقات الكبيرة في صناعة السكر وحصاد القصب، فـ(كنانة) التي لم تتأثر بالحصار الاقتصادي المفروض على السودان ويسمح لها باستيراد مدخلات قطع الغيار من الولايات المتحدة الأمريكية، تستخدم نظام حريق القصب للتخلص من الشوائب والحشائش وأوراق القصب، لتتصاعد ألسنة اللهب في المساحات قبل حصادها، ويعد المهندسون الزراعيون أن نظام حريق القصب قبل حصاده يزيد من نسبة استخلاص السكر، ويعدونها الطريقة المثلى للحصاد، بينما في مشروع (سكر النيل الأبيض) ينتهج الحصاد الأخضر وهو آخر ما في جعبة البرازيل رائدة صناعة السكر في العالم.. والحصاد الأخضر يغذي الأسواق بالأعلاف التي تصدر إلى المملكة العربية السعودية والإمارات وتغذي شرايين الأسواق المحلية، ولكن المهندسين الزراعيين في شركات (كنانة) و(عسلاية) و(النيل الأبيض) مختلفون فيما بينهم، هل الحصاد الأمثل هو الحصاد الأخضر الذي يوفر الأعلاف ولكن يقلل نسبة استخلاص السكر؟ أم الحصاد عن طريق إشعال النيران في القصب الأخضر لزيادة نسبة تركيز السكر في القصب والتخلص من الشوائب؟؟ وهذه الطريقة التي تتبعها شركة (سكر كنانة) ترفضها جمعيات حماية البيئة في الدول الغربية نظراً لأخطارها الصحية على الإنسان والحيوان، ومساهمتها في إفساد طبقات الجو العليا.. وفي شركة (سكر عسلاية) يدافع المهندسون عن طريقة بدائية جداً في حصاد القصب وهي الحصاد اليدوي الذي يقلل نسبة الفاقد من القصب، ولكنه أيضاً يعتمد على طريقة (كنانة) في (الحرائق) والدخان الذي يسد السماء.. والحصاد اليدوي، يقول المهندسون في (عسلاية)، إنه يساهم في تشغيل الآلاف من الأيدي العاملة، وفي ذلك خدمة اجتماعية واقتصادية لقطاعات عريضة من المحرومين من التوظيف وفرص العمل، ويبلغ دخل عامل حصاد القصب في (عسلاية) (120) جنيهاً في اليوم الواحد.. ويقول بعض المهندسين إن تكلفة الحصاد اليدوي أقل من تكاليف الحصاد الآلي، لكن المهندسين في (النيل الأبيض) يعدون الحصاد الأخضر هو آخر ما توصل إليه العلم الحديث والتطور بشرط إجراء بعض التعديلات الهندسية في تركيبة مصانع السكر الحالية، لكن طبعاً من خلال تقانة غربية، والتقانة الغربية السودان محروم من الانتفاع بها بسبب الحصار!! انصرفنا من مصانع السكر وجدل المهندسين الزراعيين والتقنيين بلا اتفاق.. لكن الوزير «السميح الصديق» بدا أكثر ميلاً للحصاد الأخضر لكنه لم يقطع برأي حاسم وترك جميع الأبواب مواربة.
} (النيل الأبيض).. أزمات ومشاكل
{ هل تم إنشاء مصنع (سكر النيل الأبيض) دون دراسات علمية؟ أم كان قرار قيام المصنع سياسياً؟ أم أن الدراسات التي أجريت على التربة لم يؤخذ بها عند اتخاذ قرار قيام المصنع؟ وما هي المشاكل الحقيقية التي واجهها المصنع حالياً؟؟
نقاشات وحوارات في الفضاء بين وزير الصناعة والمهندس «حسن ساتي» العضو المنتدب- أي المدير العام- والطاقم الهندسي والزراعي العامل في المشروع، كشفت في الهواء الطلق المفتوح عن حجم المشكلات الكبيرة التي يواجهها المشروع وأقعدت به وتهدد مستقبله.
المشكلة الأولى التي واجهت مشروع (سكر النيل الأبيض)، تمثلت في فقر التربة والزيادة الكبيرة في نسبة الأملاح، حيث تبلغ نسبة الأراضي المالحة من جملة أراضي المشروع (25%) من الأرض و(14%) من جملة المساحة الكلية للمشروع لا تصلح أصلاً من حيث المبدأ لزراعة قصب السكر. ويقول المهندسون في مركز أبحاث القصب الخاص بالمشروع إن بدائل في زراعة القصب قد تم تجريبها من أجل نتائج أفضل بزراعة قصب من جنوب أفريقيا له قابلية مقاومة أملاح الأرض.. ولا يعد المهندسون الزراعيون (ملوحة) الأرض مشكلة لا يمكن التغلب عليها إذا تم استخدام بعض تقنيات غسل الأرض، ولكنها تقنيات باهظة التكاليف.. وتظهر أملاح تربة المشروع بالعين المجردة، حيث تغطي الأملاح بلونها الأبيض التربة السوداء، ولا ينبت قصب السكر بمعدلات طبيعية في حال زيادة نسبة ومعدلات الأملاح في التربة. ويعترف المهندسون الزراعيون بأن أفضل الأراضي في السودان لزراعة قصب السكر والأعلى إنتاجية هي الأراضي الواقعة شرق وغرب النيل الأزرق، وأن مصنع (سكر الجنيد) مثال للأرض الصالحة لإنبات قصب عالي الجودة.. ويعتقد البعض أن قضية الأملاح يمكن التغلب عليها بعد مرور سنوات عديدة على زراعة الأرض.
وتواجه المصنع مشكلة قلة طحن القصب يومياً، لوجود خلل فني في مطاحن القصب، حيث يتم الآن طحن ثلاثة آلاف طن للخط الواحد، بينما الطاقة التصميمية للخط الواحد (12) ألف طن لليوم، أي أن الخطوط العاملة في طحن القصب تعمل بربع طاقتها اليومية.. فمن المسؤول عن اختيار الأرض والتربة المالحة في (النيل الأبيض)؟ هل هي هيئة البحوث الزراعية التي أسندت إليها الدراسات الأولية عن زراعة قصب السكر في النيل الأبيض؟ أم جهات أخرى؟؟ وتبين أن المشكلات بالنيل الأبيض تأخذ بتلابيب بعضها البعض، إذ تواجه عمليات الحصاد الآن قضية امتصاص التربة لمياه الري، حيث تتطلب عمليات حصاد القصب وقف الري لمدة أسبوعين حتى لا تتعرض الحاصدات للوحل في الطين، إلا أن المهندسين يتفاجأون دائماً بوجود برك مياه في المناطق التي يفترض أن تكون جاهزة للحصاد.. فهل شملت دراسات ما قبل قيام المصنع امتصاص التربة للمياه؟ وهل في ظل واقع تعدد المشكلات التي يعاني منها مشروع (سكر النيل الأبيض) يستطيع المشروع تنفيذ خطته الإنتاجية السنوية؟؟
} البيع أم الشراكة؟؟
{ وزير الصناعة الجديد نجح في الوقت الراهن في إيقاف بيع مصانع السكر الحكومية الثلاثة، التي كانت ستذهب لصالح مستثمر جزائري الجنسية على طريقة بيع الاتصالات والفنادق الحكومية والمؤسسات و(سودانير).. حفنة من الدولارات تذهب إلى الخزينة العامة.. ويذهب الربح إلى جيوب مستثمرين أجانب.. والوزير النافذ في مفاصل السلطة الآن نجح في إيقاف البيع، لكنه لا يستطيع حماية المصانع الحكومية إذا كانت غير قادرة على تطوير نفسها والصرف على نفسها، والوفاء بالتزامات العاملين فيها، لن يستطيع حمايتها من توالي خسائرها عاماً بعد الآخر وتدني الإنتاجية وفشل المصانع في تسويق منتجاتها من السكر!! الحكومة فتحت أبواب الاستيراد لسلعة السكر لمحاربة الندرة واستقرار الأسعار، لكنها في الوقت عينه أثقلت كاهل الإنتاج الوطني بالضرائب والجبايات والرسوم.. الحكومة تفرض على إنتاجها من السكر ضرائب ورسوم إنتاج باهظة حتى كسد الإنتاج وبات غير مرغوب في السوق.. إن أغلقت أبواب استيراد السكر تصبح سابحة عكس تيار حرية السوق وقابضة على حرية التجارة، وبالتالي يترتب على ذلك ارتفاع في أسعار السكر داخلياً.. وإن فتحت أبواب الاستيراد كسد إنتاجها.. إنها (بيضة أم كتيكي) التي قيل إنها (إذا وجدتها في قارعة الطريق وأخذتها قتلت أمك وأن تركتها قتلت أبوك)!!
المهندس «السميح الصديق» قال إن أبواب الاستثمار والشراكة مفتوحة للمستثمرين السودانيين للدخول في شراكة مع الحكومة لتطوير مصانع السكر الحكومية الحالية، وإن فشلت الحكومة في الاتفاق مع مستثمرين وطنيين فإنها ستبحث عن شريك أجنبي لإنقاذ واقع مصانع السكر الحكومية من الانهيار!! ولكن كم من المستثمرين الوطنيين يملكون القدرة المالية على دفع ملايين الدولارات ليصبحوا شركاء للحكومة في مصانعها؟ وهل تجربة شراكة رأس المال الوطني مع الحكومة تحفز على المضي قدماً نحوها؟ وما هي الأمثلة التي يمكن أن يحتذى بها؟؟ فشراكة الحكومة مع رأس المال الأجنبي تمثل (سودانير) صورة شائهة لها.. فإلى أين تتجه صناعة السكر في السودان؟؟

يوسف عبد المنان: صحيفة المجهر السياسي[/JUSTIFY]