منى سلمان

الحِد الحمانا النمّة


[ALIGN=CENTER]الحِد الحمانا النمّة[/ALIGN]

للتعبير عن الضيق من حجر حرية التعبير أو التصرف، كانت أمي تقول (ده حِدا حمانا النمّة) .. والنمّة من النمّ أو الترنم بالغناء والمثل يستعمل للتعبير عن الضيق من الأمور التي تقيد الانسان وتمنعه من التصرف على طبيعته، كحال الحِد الذي يلزم المرأءة التي تكون في حالة حداد بالالمتناع عن مجرد الدندنة بالغناء .. فـ الحِد أو الحداد هو نوع من الطقوس التي تمارسها النساء للتعبير عن الحزن على موت عزيز لديهن.
كانت النساء السودانيات قديما يشققن على انفسهن ويبالغن في التعبير عن حزنهن على موت الاحباء، فكما حكت لنا الحبوبات، فقد كانت النساء تلبس (القنجة) وتنتعل شباشب (القمر بوبا) ولا يمسسن الطيب أو الدهن طوال مدة الحد، والتي تتراوح – إذا لم يكن الميت هو الزوج – بين الاربعين يوم والسبعة أشهر أوالعام، وقد يمتد الحِد إلى سنوات حسب عظم الحزن على فقد العزيز الراحل، كما فعلت (حبوبتي) فقد (حدّت) على أمها لسبع سنوات حسوما، لم تقطعها إلا بعد أن حجت إلى بيت الله الحرام ..
مع المبالغة في مدة الحد تكون هناك أحيانا مبالغة في الاجراءات المصاحبة له، فكما علمت من بعض قريباتي كبيرات السن، انهن كانن يغسلن توب (القنجة) بماء الشاي المغلي حتى يسمر لونه ويغبّش إذا ما شابه شيء من البياض من كثرة الغسل، ويمتنعن عن لبس النعال والشباشب ويسرن حافيات حتى عند الخروج للشارع .. ويكتفين بوضع شبشب (القمر بوبا) أو جزمة (الزيزي) السوداء جوار باب المرحاض كي يلبسنها عند دخوله ومن ثم يخلعنها عند الخروج منه.
كذلك تعاف النساء أثناء الحِد من أكل الفاكهة وحلو الطعام ويمتنعن عن تناول السكّر فيشربن الشاي والقهوة (مسيخة)، كما كنت قد كتبت من قبل في مادة (بائع المقاشيش) عن قريبتي التي توفيت لها ابنة صغيرة في الثامنة من عمرها، كانت قد انجبتها بعد مجموعة من الأولاد، فحزنت عليها حزنا فاق الوصف .. فكما اذكر من حكاوي نساء الأسرة الكبار حينها عندما كنا وقتها صغارا، أنها كانت تعاف النوم في السرير فجعلت لنفسها مرقدا في الارض من الرمل تنام عليه وتتوسد ثوبها ودموعها التي قرحت عينيها، وظلت لا تسرح شعرها وتكتفي من الطعام بـ (الكسرة بالموية) حتى رأت في ذات ليلة رؤية في منامها، حيث جاءها شيخ كبير ابيض الثياب وايقظها وهو يضع امامها حزمة من (المقاشيش) وقال لها لائما:
اديناك المقاشيش دي كلها وشلنا منك واحدة بس وبرضو زعلانة .. أها لو كان شلناهم كلهم كان حا تعملي شنو؟
ثم حمل (مقشاشة) اضافية ووضعها مع الحزمة وقال مطيبا لخاطرها:
عشان ما تزعلي هاك .. اديناك دي بدلا.
ولم يمض العام سبحان الله على توبتها من الحد حتى كانت تضع امامها مولودا جديدا بعد ان توقفت عن الانجاب طوال تلك الثمانية سنوات عمر فقيدتها.
أما زوجة الميت فقد كانت تعاني الأمرّين من الحبسة والحِِد، فلولا شيء من مخافة الله والخجل لفضّل (ناس زمان) أن تدفن الأرملة حية مع زوجها، كما كان يحدث لدى بعض الديانات القديمة في الشرق الاقصى، ورغم أن الاسلام لم يأمر زوجة الميت إلا بأمتناع عن الطيب والزينة، ونهاها عن الخروج من بيتها دون سبب وجيهة وأن لا تخطب خلال الاربعة أشهر وعشرة أيام إلا بـ (التلميح) أوالكناية، إلا أن الكثير من العادات الفرعونية والوثنية قد تسللت على طقوس (الحبس) وطريقة حزن الأرملة على زوجها، فمثلا كانت (زوجة الميت) تلزم بمواجهة الحائط والصوم عن الكلام (الحضانة) عند المغرب وحتى هبوط الليل ولا تنظر إلى المرآة ولا تقابل الرجال ولا تغير فرشها أو مكان نومها طوال تلك الشهور ولا تخرج من غرفتها إلا لقضاء الحاجة ووو…
ورغم تحسن ظروف حبس الأرامل مع تنامي سطوة لجان حقوق الانسان والنسوان، إلا أنه مازالت هناك الكثير من أمور الجاهلية التي تمارس، فقد عانت والدة صديقاتي عند وفاة ابيهن من الصداع الحاد طوال شهور الحبس، وما ذلك إلا لأنها كانت قد تعودت أن تضع على رأسها القليل من زيت السمسم قبل النوم، ومن ثم حرمت من تلك العادة في حبسها بعد ان منعوها منعا باتا من وضع نقطة زيت على رأسها .. ورغم محاولتي الدؤوبة على اقناعها بأن زيت السمسم لا يعتبر من الطيب أو الزينة بل هو دواء في حالتها ولكني كنت كمن يؤذن في مالطا.
أما أطرف موقف فقد كان مع صديقة أخرى منعت أحد أقاربها من الدخول على والدتها ليعزيها عند وفاة زوجها والد صديقتي، وعندما سألتها عن السبب في تعنتها رغم أنها متدينة و(فاهمة) ووالدتها قد تجاوزت سن الستين بكثير، أجابتني بأن قريبها هذا كان قد خطب أمها قبل أكثر من أربعون عاما .. يعني عينو عليها !!!

لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com


تعليق واحد

  1. والله عاد مبالغه يعنى ميته وخراب ديار اللهم ارحم موتانا والهم اهاليهم المن والسلوى