حوارات ولقاءات

خالد موسى: أعتز بأنني حررت معظم بيانات تأييد ثورات الربيع العربي


[JUSTIFY]تستضيف (اليوم التالي) في هذا الحوار الوزير المفوض خالد موسى دفع الله القائم بالأعمال بالإنابة ونائب السفير في سفارة السودان ببرلين. وقصدنا في هذا الحوار الذي يجمع بين الخاص والعام أن نسلط الضوء على تجربته المهنية والإعلامية والأدبية الممتدة. فهو قد تدرج في العمل الإعلامي وعمل في حقل الصحافة قبل أن ينضم إلى وزارة الخارجية. سبق وأن تقلد منصب الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية، كما عمل أيضا في سفارة السودان بواشنطون. له اهتمامات بالثقافة والأدب وصدرت له عدة كتب آخرها كتابه الذي صدر عن دار الدليل ببرلين تحت عنوان (سيرة الترحال عبر الأطلنطي)، كما شارك في تقديم برامج حوارية في تلفزيون السودان القومي. خالد موسى متهم في هذا الحوار بأنه هجر الأدب وهرول نحو السياسة خاصة وأنه أصدر كتابه الأول عن اللامنتمي في أدب الطيب صالح. كما استنطقناه حول تجربته في منصب الناطق الرسمي والمواقف التي واجهته وقال إنه شديد الإعتزاز بأنه حرر معظم بيانات دعم ثورات الربيع العربي. وكشف في هذا الحوار عن التصريحات التي سببت له مشاكل وإحراجا. كما تحدث عن تجربته الإعلامية في التلفزيون وأميز الحوارات والبرامج التي قدمها وعن تلك التي امتدت إليها يد الرقيب. وسلط الضوء من خلال حديثه عن الفرق في منهج العمل الدبلوماسي في أمريكا وأوروبا. وعبر في الحوار عن ميوله الرياضية وذائقته الموسيقية. تم الحوار عبر الوسائط الحديثة.
* أنت متهم بأنك تركت الأدب وهرولت نحو السياسة؟
لست سياسيا محترفا، ولا أمارس السياسة العارية، ولكني كثير الاهتمام بمحمولها الفكري، ضعيف الاهتمام بقعقعة سيوفها ومثار غبارها ومسالكها العملية. وبحكم توجهي المهني ووظيفتي الدبلوماسية أتعاطى السياسة وفق مسار تجلياتها في الفضاء الدولي وتقاطعاتها مع قضايا السودان الداخلية وخياراته السياسية وتوجهاته الثقافية والحضارية. وقد اتهمني مؤخرا الدكتور عبدالله حمدنا الله بأنني هجرت الأدب بعد ميلاد باكورتي النقدية (اللامنتمي في أدب الطيب صالح) وأن وزارة الخارجية وسمتني بميسها المهني القح، ولكنني أقر وأنفي وأعترف بأنني هربت مع سبق الإصرار والترصد من بيادر الأدب إلى صحراء السياسة. أقر أنني مازلت أكابد التمرد على أنساق التكلس الوظيفي إلى فضاء المعرفة العام. وأنفي أن هاجسات قوافي المتنبئ لم يمت بريقها في هزيع الليل الأخير. وأعترف أن إنتاجي النقدي قد غفا عن مطالعة الشمس حينا من الدهر وهذا قصور استحق عليه أن أغسل قلمي سبع مرات إحداهن بالتراب. أما الشعر فقد أباني جيده فأبيت رديئه.
* تحولات الميلاد وبيادر التنقل
_ ولدت في قلب الجزيرة في طابت بين نفحة الدعاش وطين الحواشات وأنفاس المدائح وإيقاعات الطار، وترعرعت في مدينة أقول عنها دائما إنها عطست جمالا فلم يشمتها أحد إنها نيالا، وشهدت أم درمان نضج حرفي وتميلات فكري ومزايدتي على الحياة بصبو الشباب. فجعلت معلقا بين رائحة المدن وتراث الانتماء بين المدر والحجر. وأنا ابن الطبقة الوسطى بكل انتكاساتها الراهنة وبريقها القديم. دمي معلق في آل الكباشي وصبوتي هناك في مقابر الشريف.
*ماذا تبقى من الطيب صالح في ذاكرتك؟
الطيب صالح نبع من رحيق الإبداع والمعرفة لا يجف ولا يعتكر رغم رحيله الفاجع، لأن تأملات التأويل والتفسير في شخوصه وأحداثه ومروياته مازالت تشغل الناس وتقدح الفكر. وأنا شديد الاحتفاء بمختاراته لأنها توازي في عمقها وأطروحاتها الفكرية والثقافية والنقدية أصداء مشروعه الروائي، إنه كاتب شامل. وسيبقى في تاريخ الأدب السوداني العبقرية المؤسسة لفن الرواية السودانية في تجلياتها الحديثة. وتبقى منه في ذاكرتي أنني بعد أن أنجزت كتابي عنه (اللامنتمي في أدب الطيب صالح) وأنا أكر بدايات العقد الثاني من مسبحة العمر أرسلت له عددا من النسخ هدية لإطلاعه مصحوبة بخطاب شخصي نعيت فيه مساءات الخرطوم الثقافية الحزينة. وعندما عثر أصدقائي على ذلك الخطاب قبل أن يرحل مزقوه وأتهموني بأنني أحرض على تكدير المزاج الثقافي العام. وحسرتي تتوكأ على عصا الأناة لأنني لم ألتقه كفاحا رغم الرسائل الأثيرية المتبادلة. وبقي في ذاكرتي أنه في يوم رحيله الفاجع تداعينا إلى دار الجالية بواشنطون وخطب فينا الدكتور الأستاذ عبدالكريم الكابلي وصب في أسماعنا رثاء شفيفا وأوضح كيف تشاركا أنداء الجمال في حياته، وتسامينا بالحزن والكلمات التي صدرت مني والأستاذ طلحة جبريل صديقه المقرب، والأديب هاشم الإمام.
*العلاقات مع ألمانيا هل خرجت من مظلة العقوبات الأمريكية والإتحاد الأوروبي؟
_تمتاز العلاقة مع ألمانيا بأنها ترتكز على تاريخ راسخ من التعاون التنموي والتبادل الثقافي، منها مشروعات منتجة وقائمة حتى الآن مثل تلفزيون السودان، وسكر الجنيد، ومصنع الذخيرة وبعض مصانع المنتجات الغذائية وقد تأثرت العلاقات بسبب الموقف الغربي والعقوبات الأمريكية فتم وقف برامج العون التنموي في عام 1992، ولكن منذ عام 2008 بدأت العلاقات في التحسن الإيجابي، فتم تكثيف لزيارات المسؤولين وقدمت ألمانيا دعما ومساعدات في دارفور وشرق السودان حيث مولت مشروعا لمياه الشرب يكفي 50 ألف نسمة. وأجاز البرلمان قرارا يقضي بأن تعطى العلاقة مع السودان وزنا خاصا في خارطة سياستها الخارجية، وكذلك دعم مشروعات السلام والتسوية السلمية مع جنوب السودان. اتبعت ألمانيا على عكس غيرها من الدول الغربية سياسة الحياد بين دولتي السودان وجنوب السودان دون انحياز لطرف دون آخر، وتعمل على تحسين العلاقات بين الخرطوم وجوبا لتأمين الاستقرار الإقليمي. ستشهد الخرطوم في الأسبوع الثالث من مارس القادم زيارة لعدد من الشركات الألمانية، كما تجري الاستعدادات لعقد لجنة التشاور السياسي. تقدم ألمانيا 20 منحة للسودان في العام، كما تشارك بعثة متحف المصريات بميونخ التي ظلت تعمل لأكثر من 15 سنة في أكبر الاستشكافات الأثرية في منطقة جبل البركل، وتعمل بعثة الآثار الألمانية بقيادة البروفيسور فيلدونغ على تشييد متحف للمدن الملكية المكتشفة بالشمالية بتمويل قطري. قدمت ألمانيا دعما لدارفور في حدود 20 مليون دولار، وابتدرنا مؤخرا مشروعا للتعاون في مجال الأمن الإحيائي في حدود 3 ملايين يورو، كما تمت إعادة افتتاح مكتب العون التنموي GIZ الشهر الماضي بالخرطوم. يبلغ الميزان التجاري 300 مليون يورو ويميل لصالح ألمانيا بنسبة 80% ويحتل السودان المرتبة 107 في قائمة التبادل التجاري بين ألمانيا ودول العالم ولكنه في المرتبة الثامنة أفريقيا. ونبذل جهودا مقدرة بدفع من القيادة السياسية للوزارة في ترقية العلاقات السياسية وزيادة نسب الاستثمارات الألمانية في السودان رغم العوائق المتمثلة في العقوبات الأمريكية وعدم توفر صكوك ضمانات الاستثمار (هريمس).
*وماذا عن توقف لوفتهانزا؟
_ قرار شركة لوفتهانزا بإيقاف رحلاتها إلى السودان بعد خمسين عاما يعتبر خطوة مؤسفة للغاية. ويعود هذا القرار إلى أسباب تتعلق باقتصاديات الطيران وليست له أي ظلال سياسية، لأنه مع اشتداد المنافسة الإقليمية مع شركات أخرى مثل طيران الاتحاد والقطرية والإماراتية والتركية أصبحت المفاضلات قائمة على رخص أسعار النقل والتذاكر. وقد تعهدت الحكومة عبر وزير الاستثمار الدكتور مصطفى عثمان بحل جميع الإشكالات والمعوقات لاستئاف رحلاتها إلى السودان، لكن لا تستطيع الحكومة أن تتدخل في سوق المنافسة التجارية الحرة بين شركات الطيران المختلفة. ونتمنى أن تزول الأسباب حتى نرى شعار الشركة يحلق مرة أخرى في سماء السودان.
*هل اكتملت الاستعدادات لاستضافة حوار القوى السياسية في ألمانيا؟
_تقدم بالفعل معهد ماكس بلانك للقانون الدولي بمقترح لدعم المسار السياسي الدستوري وقيام الانتخابات بمشاركة الاتحاد الأوروبي. ولا شك أن رؤية السودان تنطلق من الترحيب بأي جهود تحاول أن تقدم تدريبا لرفع القدرات عبر تنظيم ورش عمل متخصصة في مجال النقاش حول مضامين الدستور مقارنة بتجارب الدول الأخرى ولكننا نتحفظ على أي دعم يتدخل في جوهر السيادة الوطنية بالصياغة الميكانيكية للدستور لأن هذا من مهام المفوضية القومية للدستور ولا غرو فإن هذا المعهد هو الذي كتب دساتير جنوب السودان وليبيا وأفغانستان. أبلغنا الجانب الألماني أن الترتيبات جارية على قدم وساق لعقد ورش عمل تدريبية لرفع القدرات والاطلاع على تجارب الدول الأخرى، وأنه سيمثل كل حزب بخمسة مشاركين. ونتمنى أن تكون تجربة ناجحة تساعد على تقريب وجهات النظر حول مضامين وأحكام الدستور القادم.
* هل من مراجعة في تجربتك ناطقا رسميا بأسم الخارجية؟
_نعم عملت ناطقا رسميا باسم الخارجية لفترة تقارب العامين. وتلك ثقة منحني إياها الوزير علي كرتي ما كنت أتطلع إليها، ولكنها جزء من ديدنه لتمكين الشباب وقد سبقني على تلك التجربة السفير معاوية عثمان خالد بنجاح باهر. ولعل أول من أجاز تخصيص ناطق رسمي باسم الخارجية هو وزير الخارجية الأسبق د. لام أكول وشغلها في حينها السفير جمال محمد إبراهيم، ولكن تميز الوزير علي كرتي بتأسيس الموقع وتقويته ومنحه صلاحيات أكبر. ولعل كل الذين شغلوا منصب الناطق الرسمي باسم الخارجية لهم تجارب مهنية وأواصر تاريخية مع الإعلام منهم السفير أبوبكر الصديق الذي أعتبره أستاذا في مهارات التحرير والصياغة في العمل الصحفي وكذلك السفير العبيد أحمد مروح.
* مشاغبات ومواقف في الموقع ولك خلاف مشهور مع الوالي السابق كاشا؟
_شغلت الموقع في وقت كان يمور فيه السودان بأحداث جسام ووتيرة متسارعة. حيث شهدت وقائع انفصال جنوب السودان وأحداث الربيع العربي وبعض مشادات السياسة الداخلية. وعلى ذكر الوالي السابق عبدالحميد موسى كاشا فقد كان واليا لجنوب دارفور، وتعرض في تصريحاته لعدم تخويل صلاحيات قانونية لوزارة الخارجية في شأن المنظمات الإنسانية العاملة في دارفور، وقال إن من حقه طرد المنظمات دون الرجوع إلينا لأنه ليس موظفا في خارجية كرتي. فأصدرت ردا بإسم الوزارة شغب على نفسه وصعب عليه ابتلاعه فشن هجوما شخصيا علي لأني أكدت أن وزارة الخارجية تراعي مقتضيات الأمن القومي. ولكن تطايبت خواطرنا بفعل التدخل الجميل من وكيل الخارجية الأسبق د. مطرف صديق كما التقينا كفاحا على باب مسجد حي الدوحة بأم درمان عقب صلاة الجمعة فذهب زبد الغضب وبقي ما ينفع الناس، وأثبت في هذا الموقف أنه رجل شهم وفارس جحجاح.
وتشرفت بأنني حررت معظم بيانات التأييد لثورات الربيع العربي. وأذكر حينها عندما كتبت بيان تأييد ثورة مصر بعد أن أجازه وزير الخارجية تردد التلفزيون في بثه حتى ذهبت وزيرة الدولة السابقة بالإعلام والسفيرة الآن الأستاذة سناء حمد إلى التلفزيون وطلبت منهم بثه على الفور وجلست في الاستديو تدير حوارا حول هذه التحولات التاريخية.
واستبقنا سقوط القذافي وأصدرنا بيانا لافتا طلبنا منه وقف قتل الأبرياء، وكنا من أوائل الدول التي أصدرت بيانا لتأييد الثورة في ليبيا وذلك بدقة المتابعة وحسن قراءة مآلات الأوضاع.
وفي ثورة تونس أم ثورات الربيع العربي، لا زلت أذكر اننا تشاورنا مع الوزير لإصدار بيان تأييد وعندما أكملت تحريره اتصلت على سفير السودان في تونس لمشاورته فطلب أن نرجئ بيان التأييد إلى حين إكمال ترتيباته وتأمين موقفه لأن الرئيس السابق بن علي لم يكن قد غادر تونس بعد. وبينما أنا جلوس في المكتب دخل على في حوالي الثامنة مساء السفير محمد صلاح الدين وكان يشغل مديرا للشؤون الإدارية فسألني عن حيرتي فلما شرحت له الموقف، قال لي بثقة كبيرة إنك أمام بوابة التاريخ الآن إما أن تنتصر لإرادة التغيير والجماهير وإما أن تنتظر فتفوت على السودان لحظة التأييد والدعم المثالية. فأدركت حكمته وأصدرنا البيان دون أن نعيد الاتصال بتونس مرة أخرى.
*تصريح سبب لك إشكالا وآخر تفخر به؟؟
_التصريح الذي سبب لي إشكالا كان حول تورط العدل والمساواة في القتال إلى جانب القذافي في ليبيا. وقد أثار التصريح ردود فعل واسعة، وقد أصدرته بعد توفر معلومات مؤكدة وجازمة تم توثيقها من الجهات المختصة بالدولة وبعد مشاورات سياسية بالخارجية مع أصحاب القرار. ولكن للحق لم يكن الوزير موجودا حينها ولم يكن راضيا عن التصريح لأنه لا يريد للخارجية أن تنجر إلى معارك فرعية كما لم يكن مهيئا لتداعياته. كما تعرضت لهجوم شخصي عنيف من الناشطين حيث دعا أحد الناشطين إلى إهدار دمي على الإنترنت. ولكن تداعيات الأحداث تؤكد أن هذا النهج مازال سائدا في التفكير السياسي والدليل ما يحدث في جنوب السودان من تدخلات في القتال.
أما التصريح الذي أرى أنه قد سبب نجاحا معقولا فهو الرد على مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية الأسبق جوني كارسون الذي هاجم السودان لعدم التزامه بالتطبيق الكامل للاتفاقية بعد انفصال الجنوب وكان ردنا عليه هو أهمية أن تلتفت واشنطون إلى خروقات الحركة بدلا عن مهاجمة السودان التي تمثل تهديدا للاستقرار وهي تحاول أن تضع أبيي جزءا من دستور دولة جنوب السودان وهو انتهاك واضح لبروتكول أبيي وللاتفاقيات السياسية بين الطرفين، فاضطر للتراجع علنا في اليوم التالي. وتصريح آخر للرئيس الأسبق كارتر نسب فيه للرئيس البشير تصريحات أسيئ فهمها ولم تكن دقيقة، هذا إضافة إلى تصريح مغادرة قوات اليوناميس بعد فصل الجنوب وطلبنا منهم حزم حقائبهم ومغادرة البلاد نصا وروحا.
* ما هي ملامح تجربتك الإعلامية في التلفزيون؟
_اتصلت علينا إدارة التلفزيون مشكورة ممثلة في القسم السياسي لمشاركتها تقديم برامج حوارية، فاخترت أن أقدم برنامج (من غرفة المتابعة) وهو اسم استقيته من أحد برامج (السي إن إن)، حتى يوفر مساحة لاستعراض الأحداث المهمة عبر الحوار مع الشخصيات المؤثرة والعميقة. ومن أشهر الحلقات التي قدمتها مع رئيس مفوضية التقييم والتقدير أثناء تطبيق اتفاقية نيفاشا وهو السير بلمبلي، والدكتور الإنجليزي العراقي أحمد الشاهي، والدكتور لوكا بيونغ. وقال لي دكتور أحمد الشاهي إنه لم يدخل التلفزيون منذ أربعين عاما ولعل آخرها كان حوارا مع العلم الكبير على شمو. ودهشت عندما استضفت الخبير والصحفي الكبير السر سيد أحمد الذي أكد لي أن التلفزيون لم يجر معه مقابلة منذ أكثر من عشرين عاما. لكن أميز الحلقات في تقديري كانت مع الدكتور غازي صلاح الدين التي قال فيها قولته المشهورة إن الصادق المهدي يحاول تربيع الدائرة. وما إن أنتهت الحلقة الأولى حتي طلب التلفزيون تسجيل حلقة أخري في ذات اللحظة والتو. أما الحلقة التي تحسرت عليها فهي حلقة أعددت لها جيدا مع الصادق المهدي وكانت محاور أسئلتي تنحصر في مراسلاته مع قرنق واتهامات قرنق بأنه عطل مسيرة التطور السياسي وقوض الإجماع الوطني لأنه ابتدر مع د. الترابي مقترحات التشريعات الإسلامية وطموحات توجهات مشروعه العروبي النيلي. ولكن تم إلغاء الحلقة في آخر لحظة وقبل التسجيل مباشرة لتوجيهات مجهولة لم أستطع إدراك أسبابها حتي هذه اللحظة.
كما سبق وأن أجريت حوارين مع وزير خارجية النمسا ومع السيد مارغيلوف المبعوث الروسي الخاص وكنت في ذلك الوقت مرافقه الدبلوماسي. وبعد أن كان مترددا وافق على إجراء الحوار باللغة الإنجليزية رغم إجادته للغة العربية على أن نعالج مسألة الترجمة لاحقا، وبعد أن انتهينا من التسجيل قال لي بلغة عربية فصحي أعلم أنك دبلوماسي ناجح ولكن لم أكن أعلم أنك إعلامي مميز كذلك.
ولعل أهم تجربتين في هذا الصدد هما حوار أجريته مع الدكتور عبدالوهاب الأفندي الذي رفض الاستجابة لطلب المقابلة إلا تحت إلحاح وضغوط من أصدقائه وكنت قد أعددت نفسي جيدا وعرضته لمحاكمة قاسية ولكن فوجئت أن الحلقة تعرضت لمقص الرقيب مما أفقدها نكهتها وتميزها دون أسباب موضوعية فكتب عن ذلك مقالا أشاد فيه بالحلقة التي اعتبرها من أفضل المقابلات التي أجراها في مسيرة حياته العملية وانتقد إدارة التلفزيون في تدخلها غير المبرر. والتجربة الأخيرة هي سهرة التي تم تسجيلها بعد الانفصال مع خمسة من مديري جامعة الخرطوم، وكانت من أجمل سهرات الإمتاع والمؤانسة ولكن تدخلت كالعادة يد التسوية الفنية فقصت منها أجمل المداخلات والتقاطعات مع مديري الجامعة ولكم مع ذلك ظلت سهرة مميزة.
وأهدتني هذه التجربة القدرة على اكتشاف مدى تأثير التلفزيون على إدراك ووعي الجماهير وتشكيل الرأي العام. فالشكر موصول لإدارة التلفزيون والإدارة السياسية التي أتاحت لي هذه السانحة.
*سبق وأن عملت دبلوماسيا في واشنطون والآن نائبا للسفير في برلين ما هو الفرق بينهما؟
_واشنطون هي المطبخ المركزي للسياسة الدولية في العالم. وأمريكا بحكم وضعها ليست قوة عظمي فحسب، ولكن باعتبارها قوة منتجة للنظام الدولي تظل مؤثرة في خارطة العالم السياسية حتى تبرز قطبية جديدة في ظل توازنات القوى السائد الآن مع بروز الصين وبقية القوى الناهضة الأخرى. والنظام السياسي في أمريكا معقد لدولة مثل السودان تواجه تحديات كبيرة خاصة وأن التأثير على صناعة القرار يرتبط بمؤسسات تنفيذية ومدنية وتشريعية متعددة مثل الكونغرس، الخارجية، البيت الأبيض، وزارة الدفاع، وزارات العدل والخزانة، ومنظمات المجتمع المدني والناشطين والإعلام ومجموعات الضغط واللوبيات المتعددة. وتكاد تحتكر توجهات صنع السياسة تجاه السودان لجنتا أفريقيا في مجلسي النواب والشيوخ إضافة إلى منظمات تشكيل الرأي العام وكذلك رئاسة الجهاز التنفيذي في البيت الأبيض. والتمثيل الدبلوماسي للسودان في أمريكا في أوقات سابقة اعتبر سلاحا ذا حدين، إذ أن العمل المهني يتميز باحترافية عالية ومصادمات مستمرة مما يزيد من الكسب والخبرة. ولكن على المنحى الإنساني يمكن أن تحس بالمواجهات والمحاصرة والهجوم الشخصي والابتزاز والسخرية فإذا كانت القماشة المهنية رقيقة وسهلة التهتك فستنهزم لا محالة، ولكن إذا أدركت طبيعة المعركة ولديك إيمان مطلق بقضيتك العادلة بالنسبة للبلد التي تمثلها فستصمد وتدافع وتنتزع حق الاعتراف والمساندة لبلدك. أما ألمانيا فهي تتميز بعلاقات تاريخية مع السودان ولا توجد جيوب عداء مستحكم في المؤسسات الرسمية تجاه السودان، والنظام السياسي ومخرجات القرار الخارجي أقل تعقيدا في ألمانيا من أمريكا. ولعل الوضوح الألماني بحكم التكوين الثقافي من أبرز وسائل التعامل الدبلوماسي لأن ما تعلنه الحكومة وتعبر عنه وزارة الخارجية هو المقصود والمبتغي على عكس النهج البريطاني الذي يقوم على إخفاء النوايا، وكذلك هو أيضا على عكس النهج الأمريكي الذي يصعب فيه التكهن بمخرجات القرار لكثرة المتداخلين من أصحاب المصلحة.
*فيلم أعجبك؟
_شاهدت مؤخرا فيلما احتفلت ألمانيا بعرضه عن الزعيم الراحل نيلسون مانديلا مستوحى من قصة كتابه الشهير. حضرته أسرته وبعض أصدقائه وبعض ممثلي الفيلم. لم أتمالك نفسي من ذرف الدموع لهذه القصة الإنسانية المؤثرة في التضحية والنضال. وقد قال لي سفير جنوب أفريقيا في برلين أنه أجهش بالبكاء ولم يتمالك نفسه مؤكدا أنه لم يكن يدرك أن الجراح مازالت متقيحة كما انهار أحد أفراد أسرة مانديلا أثناء مشاهدته للفيلم. ولعل الدرس المستفاد من هذا الفيلم هو روح القيادة التي كان يتحلى بها مانديلا لأنه في الوقت الحرج وعندما كانت الجماهير تطالب بالسلاح والعنف خرج إليها برسالة السلام وعندما رفضت وهاجت قال لها أنا القائد ويجب أن تتبعوني. هذه هي تضحيات القيادة التي لا تلتفت إلى صراخ الجماهير ولكنها تستمع إلى صوت الضمير والتاريخ ونداء الحكمة.
*كتابك الأخير عن سيرة الترحال عبر الأطلنطي.. كيف مضي بين الناس؟؟
_جشمني الدكتور عبدالله على إبراهيم بتقديمه الرائع عسرا، إذ كدت أصرف عنه بصري ولكن ردتني تقدمته الشفيفة عن التجاوز والنسيان. وسعدت بالقبول والاستحسان الذي وجده لأنه حاول أن يقدم سياحة ثقافية وفكرية عبر مسارات السياسة والسيرة والذاتية والمقالات الجدلية. ورغم ضخامة الكتاب وتنوع موضوعاته إلا أني وجدت من أتم قراءته وهو مؤشر يبحث عنه أي كاتب لأن الأصل الذي وقر في ظنهم أن بؤس المعرفة وضعف الثقافة وهموم الزمن المكندك تتعالى على الاطلاع وتتجاوز عن الكلمة المكتوبة. وسعدت في زيارتي الأخيرة للسودان بزيادة المنتج من المؤلفات السودانية نوعا وكما في المكتبات العامة. وقد أهداني هذا الكتاب تجربة ثرة وهي أن التوالي في كتابة المراجعات حول القضايا والأفكار والموضوعات أبقى وأثبت من التعليق على الأحداث اليومية. وسعدت بإهدائي الكتاب للسيد الصادق المهدي ود. منصور خالد والأستاذ علي عثمان لأن في محتوياته بعضا من وميض ذاكرتهم وحنين بروقهم.
*كتاب تعكف عليه؟
_ يستغرقني النظر هذه الأيام في مطالعة عدة كتب منها كتاب الديمقراطية السودانية للدكتور حيدر على إبراهيم وهو كاتب يهتم بالتفكير الجدلي والبناء الموضوعي لقضاياه التي يناقشها، كما أعكف على كتاب آخر بعنوان (انقسام السودان) أعدته نخبة من الأكاديميين السودانيين منهم الدكتور عطا البطحاني ود. عبدالغفار محمد أحمد والسر سيد أحمد وبعض الأوروبيين وهو كتاب حرر باللغة الإنجليزية صادر من النرويج. وكتاب حرره أيضا وزير الطاقة الأمريكي الأسبق بيل ريتشاردسون عن التفاوض في ظروف حرجة سماه (الحديث المعسول مع سمك القرش)، تناول فيه قصص بطولاته لتحرير رهائن أمريكيين في عدد من بقاع العالم ومنها تجربته في السودان لإطلاق سراح صحفي أمريكي تم إعتقاله في السودان لعدم حصوله على تأشيرة دخول أو إذن عمل.
* موقف أصابك بالدهشة؟؟
_ زرت البرازيل في فصل تدريبي مع عدد من الدبلوماسيين الأفارقة وعندما سجلنا زيارة إلى نادي فاسكو دي جاما في مدينة ريو دي جانيرو وكان معي زميلان من السنغال والجزائر توجه إلى مدرب النادي سائلا عن كابتن ماجد (مهاجم المريخ والفريق القومي في الستينيات) عندما عرف أنني من السودان. فدهشت وطمأنته أنه بخير ولكنه خارج السودان وبعيد عن صناعة كرة القدم. فقال إنه من أميز مهاجمي القارة الأفريقية في وقتها. فشعرت بالفخر أمام دهشة زملائي عن اللاعب السوداني الذي يسأل عنه مدرب فاسكو دي غاما بريودي جانيرو

صحيفة اليوم التالي[/JUSTIFY]