منوعات

آمنه نوري.. ميلاد القصيدة في غرفة “حديثي الولادة”


[JUSTIFY]وآمنة نوري، طبيبة الأسرة، إذ تستقبل في عيادتها الأطفال والنساء بابتسامة كالقمر، تبدو وكأنها تطببهم بشِعرها الناصع كأن قوافيه مغسولة ببياض ابتسامتها. ورغم صغر سنها مقارنة بإنجازاتها على المستويين الأكادمي والإبداعي، فإن (نوري) إذ تدهشك بقدرتها الفائقة على اجتراح مرافعات رقيقة عن مستوييها هذين (الشعري والطبي)، ما يجعلك تمضي في الحوار معها ضاماً أسافله إلى أعاليه ثم تولجهما في عمقه، إنه حوار ممتع.
حوار يجعلك تتأمل المرأة في صورها المتعددة، فتقول: إن آمنة نوري امرأة تبدو في هذه الصورة وكأنها خارجة للتو من لدن الخنساء ورابعة العدوية، وفي تلك الصورة المجاورة يا للهول إنها نطاسة بارعة. ثم تمضي تعدد بين هذه وتلك، صوراً شتى، حتى تقترب من الصورة الأخيرة، صورة الحوار معها، فتقرر أن آمنة نوري ربما تشبه عقد من الورد ينتثر عبيره في النفوس فيزكيها، إذ أنها تتوفر على تجربة خصبة وبسيطة، فلا تحبس أنفاسها الشعرية في هلام تبنى عليه عرشا من الخيال، فهي تكتب الشعر بلغة بسيطة، ونفس عميق، يستلهم رؤية جديدة، بجانب أنها أعلامية أخذتها (يمين) الشعر عن شمال الصحافة، وحضن الطب، فأسرجت قوافيها وأشعلت في متونها شموعاً مبدعة.
بعض من سيرتك، تفيد الحوار؟
آمنة نوري من مواليد المملكة العربية السعودية، وتعود جذوري إلى منطقة كرمة البلد، وتخرجت في كلية الطب والجراحة جامعة أعالي النيل.، وبجانب الطب عملت مذيعة بقناتي النيل الأزرق وأم درمان الفضائية، كما قدمت من إعدادي الخاص برامج تتحدث عن علاقة الصحة بالسعادة وبالشباب لصالح الإذاعتين الطبية والرياضية.
*علاقتك بالشعر، كتابته، مُذ متى؟
منذ الطفولة في المراحل الابتدائية، ولدى الآن ثلاثة دواوين (شكل مختلف، والحب والرعب) وهما بالفصحى و(ونسة روح) بالعامية، ورابع لم يكتمل.
بالعامية، كيف لك ذلك، وأنت (بنت) السعودية؟
تربينا على ثقافتنا، وكنا فخورين بها، ولم نتخل عنها، ثم لاحقاً عندما استقر بي الأمر في السودان لدراسة الطب، زاد استيعابي للمجتمع السوداني لذلك لم تمثل الكتابة بالعامية، مشكلة بالنسبة لي، إذ كتبت بها ما أفخر به وأفاخر مثل (بريد الناس شهقة الأشواق) والأخيرة، أشاد بها البروف محمد عبدالله الريح وشبهها بقصيدة الشاعر محمد علي أبوقطاطي (سوات العاصفة). كما أن كثيرين قالوا إن أشعاري العامية تمثل إضافة لحركة الشعر في السودان، ربما هذا جعل صديقتي الفنانة الرائعة نهى عجاج تتغنى بقصائدي، وأتوقع أن يتغنى الرائع علي السقيد بعملين آخرين.
* شكل مختلف، ديوان يحمل بين دفيته قضية؟
إنه يثور على الجمود العاطفي في المجتمع السوداني ويطالب بمجتمع رومانسي يعبر فيه الناس عن أحساسيهم دون مواربة وخشية وخجل، قصائده ثورة تطالب بالتغيير في هذا الجانب، فالمرأة الشرقية ملت من الجمود العاطفي للرجل الشرقي، المرأة تريد إسقاط الجمود وأطالب فيه بشكل عاطفي مختلف، فأقول (فلتكسر الروتين داخل أضلعي، أو تكسر الأضلاع ليس يهمني/ احتاج فعلا لازدحام مشاعري/ وتوتري وتزلزلي وتحطمي).
*تستخدمين مفردات مثل الأوردة والشرايين والنبص في لغتك الشعرية، وكأنك تريدين أن تقولي أنا طبيبة؟
ليس كذلك بالضبط، لكن الشعر يخاطب الأحساس، فقصيدة (نبضات من وراء الشريان) تتحدث عن شعور سري في الدماء، تأجج وثار وضاق بجدران الشرايين فحطمها لكي ينزف بقوة هذه القصائد، وهو نوع من الشعر لا يطالب فقط بشكل عاطفي إنما أيضا يطرح هذا الشكل أيضاً.
لكن أكثر أشعارك (ناعمة)؟
في هذا الديوان قصائد رومانسية ناعمة مثل (حكاية شوق، رسالة إليك) و(تأوه) ، لكن المفاجأة كانت قصيدة (استراحة)، إذ تطالب بفترة استراحة عن الحب فتقول: (دعني وشأني فقد نسيت كيف أبدو بلا رفيق).
حدثينا عن مصادر وعيك الشعري؟
أبي، أولاً، فهو أستاذ لغة عربية خريج الأزهر الشريف وقد ملأ بيته شعرا وبلاغة حتى لم يقو أحد أبنائه على مقاومة فكرة كتابة الشعر أو النثر، وقد قرأت مئات ومئات القصائد لمئات الشعراء من داخل وخارج السودان.
كيف تنظرين لحدود الحرية في الكتابة؟
إن كان هنالك حد لليال، فلتكن هنالك حدود لحرية الكتابة، فكيف يمكننا أن نضع حدودا وقوانين نتحكم فيها بمن يتحكم بنا، فالإلهام الشعري سلطان، ولي قصيدة تقول (إلى من نسف كل الحدود ما بين أعماقي وأوراق / ونفى عقلي الباطن إلى جزيرة أحرفي/ ثم رفع القلم عن قلمي) فقلمي إذن مجنون مرفوع عنه القلم فلا تؤاخذونه لو سمحتم.
وثمة علاقة بين الطب بالشعر
قد تبدو الخشونة والدموية في العمل الطبي، وقد يبدو الطبيب غليظ القلب بما لا يتلاءم مع الرقة والشاعرية، ولكن الطبيب يضغط على أعصابه ويعتاد على ما لا يعتاد ويعمل طول النهار ويسهر طول الليل كأنه الفولاذ، وكل ذلك في الأصل لرقته ولإنسانيته والإنسانية هي قمة الإحساس المرهف والطب هو قمة من قمم الإنسانية والشعر هو قمة من قمم الإحساس المرهف، فالطب والشعر إذن وجهان لعملة واحدة.
حكاية صغيرة، لو أمكن؟
كنت أعمل بمستشفى الولادة أم درمان قسم حديثي الولادة، حينما أُخطرت بحالة ولادة لطفل ولد بعد سنين من تعذر الحمل، وبصفتي طبيباً مناوباً ذهبت من فوري لغرفة العمليات للتأكد من صحة الطفل فور ولادته وإنقاذه من حالات الاختناق المحتملة، فطالعت وجه الام، كان لوحة لا مثيل لها في الوجود، فبعد كل هذه السنين الطويلة ها هي اللحظة التي تتمناها جاءت، فكان وجهها مزيج غريب من الحنين والخوف والترقب والأمومة والسعادة والألم والحمد والرجاء، خليط ما زال يدهشني إلى الآن، فكانت قصيدتي (زغاريد المشاعر)، (سمي بالرحمن وهاكا/ قلبي على راحتك كدا/ حجرك المسكون قصايد/ ياما نبضي برددا/ لو عليهو تلولي شوقي/ يمكن الشوق كان هدا / ولو تغيب لو بس شوية / تاني يرجع يزودا).

صحيفة اليوم التالي[/JUSTIFY]