رأي ومقالات

صديق البادي : البلدوزر مبارك الفاضل وإثارة الجدل


[JUSTIFY]عاد إلى الوطن في الأيام القليلة الماضية السياسي المثير للجدل السيد مبارك عبد الله الفاضل المهدي ونحييه بمناسبة عودته راجين له إقامة طيبة وآملين أن يفتح صفحة جديدة، ويقدم هذه المرة خدمة طيبة لوطنه تمسح وتجب ما قبلها من صفحات ومواقف تأذى منها الوطن كثيراً. ونأمل أن يسهم بلا مساومات وشروط في إيقاف نزيف الدم والبؤر الملتهبة وهو الذي يلم بأسرار وخفايا الجبهة الثورية وحركات التمرد الحاملة للسلاح ويقف على كيفية وضخ الدعم في عروقها، ولعله كان عراب ما سمى وثيقة كمبالا التي ولدت ضعيفة هشة وتم دفنها جثة هامدة في مهدها. وقد قامت القوى الأجنبية الممولة والراعية عن طريق منسقيها بتقسيم الأدوار لتقوم الجبهة الثورية والحركات المسلحة بالهجمات وحرب العصابات التي تزعزع الأمن وتشيع الفوضى وتقوم القوى السياسية المعارضة والموقعة على الوثيقة بإثارة الشارع وتفجير وقيادة ثورة شعبية عارمة وتكون المحصلة المرتجاة هي إسقاط النظام القائم ليحل محله نظام علماني يكون بديلاً له، ولعل من أعدوا ووقعوا على وثيقة كمبالا كانوا يأملون في مزيد من الدعم المالي واللوجستي من القوى الأجنبية المتكالبة على السودان ولكن تصرفاتهم تلك أفادت النظام الذي هادنه وتعاطف معه الناقمون عليه والغاضبون منه في الداخل، وأضحى بالنسبة لهم خيار أم خير إذ أن مجموعة وثيقة كمبالا العسكرية والمدنية قوبلت بغضب عارم وازدراء وعدم احترام والشعب السوداني يمكن أن يصبر على مضض على اية معاناة أو أذى يصيبه في الداخل، ولكنه لا يصبر ولا يحتمل اية وصايا أجنبية تحشر أنفها في شؤونه السيادية والداخلية، وتبعاً لذلك فإنه يحتقر اية
عمالة وعملاء من الأجانب المعادين أو من أبناء الوطن العاقين.

ويدور الآن حديث عن تجهيزات لحوار وطني في الداخل بين كل المكونات السياسية والحزبية والحركات المتمردة الحاملة للسلاح المطالبة بضرورة الاتفاق مع الحكومة على وقف إطلاق النار والاشتراك في الحوار الوطني مع منحهم الضمانات الكافية والحماية اللازمة طيلة فترة اشتراكهم في المفاوضات، وبالنسبة لقطاع الشمال فإن عليه أن يدرك أن التفاوض حول كل قضايا الوطن مكانه الداخل أما مفاوضات أديس أبابا فأنها ينبغي أن تكون قاصرة على المنطقتين فقط، ولم يفوض الشعب السوداني القطاع المشار إليه ليكون وصياً عليه، وعليه أن يوفق أوضاعه في الداخل عن طريق مسجل الأحزاب ليتسنى التعامل معه وفق وزنه الجماهيري الحقيقي وثقله الانتخابي الفعلي ولا سبيل له للوصول للسلطة إلا عن طريق صناديق الاختراع أما السعي للحصول على مكاسب سلطوية عن طريق مفاوضات أديس أبابا فهو حلم سرابي بعيد المنال.

والسيد مبارك الفاضل قد فاز في الانتخابات التي أجريت في عام 1986م في دائرة تندلتي ممثلاً لحزب الأمة بترشيح ودعم ومساندة من ابن عمه السيد الصادق المهدي رئيس الحزب، وهو الذي قدمه للناخبين هناك وبعدها أشركه في كل تشكيلاته الوزارية وتولى الوزارة لأول مرة وعمره ستة وثلاثين عاماً وتنقل بين عدة وزارات هي وزارة الصناعة ووزارة التجارة ووزارة الداخلية وتولى وزارات أخرى بالإنابة عند غياب شاغليها، وكان محل ثقة رئيس الوزراء ومن كاتمي أسراره وكان يجد حماية ابن عمه السيد رئيس الوزراء عندما تشتد عليه هجمات الآخرين حتى وصفه عدد من الصحافيين بأنه الوزير المدلل وشاع هذا الوصف.

وبعد نجاح الانقلاب العسكري في الثلاثين من يونيو عام 1989م وسقوط عهد التعددية الحزبية الثالثة خرج مبارك من السودان وتقلد هناك موقع الأمين العام للتجمع الوطني المعارض في الخارج وسعى مبارك لإقناع قرنق بضرورة تحالف الحركة الشعبية مع التجمع المعارض ونجح في مسعاه، وكان قرنق يريد غطاءً سياسياً شمالياً وكان التجمع يريد استغلال البندقية الجنوبية في زعزعة أمن النظام سعياً لإسقاطه وسهل مهمة التحالف بين الطرفين أن هناك علاقة سابقة بين مولانا محمد عثمان الميرغني رئيس التجمع المعارض وبين قرنق وسبق أن وقعا اتفاقية الميرغني قرنق ولعب مبارك دوراً كبيراً في عقد مؤتمر أسمرا الذي خرج بما أسموه القرارات المصيرية وأطلق رئيس التجمع الوطني مقولته الشهيرة «سلم تسلم» ومبارك من السياسيين الذين لا تشكل لهم علاقة الدين بالدولة هاجساً ولا يولونها اهتماماً كبيراً، وفي هذا الإطار فإن الجانب السياسي بالنسبة لكيان الأنصار هو الذي يهمه، أما الجوانب الأخرى فلا تعنيه كثيراً ويستوي عنده إذا أعيدت الإمامية أو أُلغيت نهائياً ولكن لا بأس لديه إذا تفرغ ابن عمه للإمامة وترك رئاسة الحزب. وحدثت خلافات بين مبارك ومولانا وترك مبارك الأمانة العامة للتجمع المعارض وذهب مع السيد الصادق زعيم الحزب لجيبوتي لملاقاة الرئيس البشير والوفد المصاحب له وأبرم الطرفان اتفاقاً وقع عليه دكتور مصطفى عثمان إسماعيل ممثلاً للحكومة وحزب المؤتمر الوطني الحاكم ومبارك الفاضل ممثلاً لحزب الأمة وأطلق الامام الصادق تصريحه الشهير «ذهبت لجيبوتي لاصطاد أرنباً ولكن اصطدت فيلا»، وبعد عودة قيادة الحزب لحضن الوطن بدأت بين الحزبين مفاوضات امتدت لأمد طويل وتوصلا لاتفاقيات حول مختلف القضايا إلا أن السيد رئيس حزب الأمة لم يوافق على الجزئية المتعلقة بمشاركتهم في السلطة ويبدو في تقدير كثير من المراقبين أن الاتفاقيات أغفلت موضوع الرئاسة ولم تحسمه ولو بحل توفيقي يقضي بخلق منصب رئيس وزراء بسلطات تفويضية وتحفظ الإمام على المشاركة التي أصر عليها مبارك وعقد مؤتمر سوبا وأعلن قيام حزب الأمة الإصلاح والتجديد وعين مبارك مساعداً لرئيس الجمهورية مع تعيين عدد كبير من حزبه في وظائف دستورية على المستوى الاتحادي والمستويات الولائية وفور أدائه للقسم صرح مبارك بأنه يريد أن يكون حليفاً للرئيس البشير بصفته قائداً عاماً للقوات المسلحة أي انه يريد أن ينفرد به ليترك البشير تنظيمه الإسلامي ويتخذ حليفاً جديداً يبعده عنهم، ولعل المنتمين للتنظيم اعتبروا أن الوافد الجديد يمزح واعتبروا ما أدلى به وفكر فيه مجرد نكته ولسان حالهم يردد أن «جدادة الخلاء لا يمكن أن تطرد جدادة البيت»، وأخذ البعض يشيعون انه سيصبح كرزاي السودان ولم يوضحوا الكيفية التي يمكن أن يصبح بها كرزاي إذ أن هذا لن يتحقق لا عن طريق انقلاب عسكري أو عن طريق صناديق الاقتراع أو أن تأتي قوة من المارينز لتفرضه فرضاً على الشعب السوداني وهذا من المستحيلات كالغول والعنقاء والخل الوفي ولم يمنح مبارك اية سلطات تذكر وأشيع انه دخل مع أحد الوزراء النافذين في شجار بسبب تأخر صرف مخصصاته المالية الحزبية. وأصبح مبارك جسماً غريباً غير مرغوب فيه فتم إعفاؤه وحدثت خلافات حادة داخل حزبه الذي تشظى وانقسم لست شظايا حزبية. ورجع مبارك للمعارضة في الخارج مرة أخرى ثم عاد للوطن مؤخراً وأخذ للمرة الثانية يغازل القوات المسلحة الباسلة وفي العسكريين داخل النظام دون الآخرين من المنتمين للتنظيم الإسلامي من ركائز النظام. ومن الأوفق لمبارك أن يستمر في حزب الأمة القومي في أي موقع بل حتى بدون موقع وهذا أفضل من إقامته لحزب صغير لن يكون له تأثير أو وزن يذكر. والأفضل لمبارك أن ينصرف لاستثماراته وتجارته وأن يكون واقعياً في ممارساته السياسية وبدلاً من أن يناطح القيادات الإسلامية بالدولة من جهة وقيادة حزبه من جهة أخرى أن يكون مرناً وواقعياً وعليه ان يسعى لأداء دور وطني إيجابي في حدود إمكانياته بإقناع الجبهة الثورية ومن يقفون من خلفها لإيقاف ما تمارسه من حرب عصابات. ولو تريث مبارك وصبر فإن المستقبل سيكون حليفه داخل حزبه دون تسرع وقفز فوق المراحل. وأن عليه أن يأخذ من تجارب والده الدروس والعبر فقد كان السيد عبد الله الفاضل المهدي رحمه الله من ركائز حزب الأمة وحكمائه وكان هو الساعد الأيمن لعمه الإمام عبد الرحمن المهدي وساهم بجهده وفكره في إرساء دعائم دائرة المهدي الاقتصادية وعندما تخرج ابن عمه السيد الصديق المهدي من كلية غردون في عام 1931م أضحى هو المدير العام المسؤول عن دائرة المهدي الاقتصادية وانصرف السيد عبد الله الفاضل لأعماله ومشاريعه الخاصة وكان مصدراً ومورداً ومستثمراً ناجحاً وتولى رئاسة اتحاد منتجي القطن في المشاريع الخصوصية وتولى رئاسة جمعية الهلال الأحمر وعند قيام حزب الأمة في منتصف الأربعينيات كان من ركائزه واشترك في كل الوفود التي ذهبت للخارج للتفاوض والتبشير بالاستقلال وعند وفاة الإمام عبد الرحمن ظل السيد عبد الله مسانداً لابن عمه إمام الأنصار الصديق المهدي وعند وفاة الإمام الصديق كان السيد عبد الله الفاضل هو رئيس اللجنة الخماسية التي كلفت لاختيار الإمام الجديد في عام 1961م وبرغم انه كان أكبر أحفاد الإمام المهدي سناً إلا انه بايع ابن عمه الهادي المهدي إماماً للأنصار وكان في عمر ابنه كمال الذي زامله في فصل دراسي واحد بكلية فكتوريا الثانوية وما دونها من مراحل دراسية، وكان السيد عبد الله الفاضل هو كبير الأسرة وحفظ التوازن داخل الحزب والطائفة وفي نهاية المطاف كان عضواً في مجلس السيادة حتى وفاته في عام 1966م. ونأمل ان يقتدي به ابنه مبارك ليكون صاحب مبادرات إصلاحية لا مصدر مؤامرات ومغامرات. وقد التقيت بالسيد مبارك مرة واحدة كانت هي الأولى والاخيرة بمكتبة البشير الريح بام درمان قبل عدة سنوات عندما كان مساعداً لرئيس الجمهورية وكان المتحدث الرئيس في ندوة أقيمت بفناء المكتبة ورغم تحدثنا واختلافنا معه في وجهات النظر إلا أنني أشهد له بانه كان إنساناً لطيفاً ودوداً معنا وكانت في تحيته بعد الندوة حرارة وهو منطلق الوجه باسم الثغر وكان مرتب الذهن في حديثه في الندوة، ومن الواضح أنه قارئ ممتاز ومتابع ويسعى لتطوير نفسه وهو معروف أيضاً بديناميكيته، والمطلوب والمنتظر منه وهو بهذه المواصفات أن يكون إيجابياً في عطائه للوطن، وأن يسهم في إيقاف حرب العصابات وأن يكسب ثقة الآخرين لا أن يكون عندهم في موضع الريبة والشك.

حاشية :
حدثت بعض الأخطاء الطباعية في المقال السابق وورد خطأ أن حفل افتتاح السد العالي أقيم في السودان، والصحيح أنه أُقيم في أسوان، وورد أن حزب البعث العراقي أسقط حكم عبد الرحمن عارف في عام 1986م والصحيح أن ذلك حدث في عام 1968م. وأخطاء طباعية أخرى طفيفة لا تفوت على فطنة القارئ العزيز. ولكم المعذرة.

صحيفة الإنتباهة
ع.ش[/JUSTIFY]