د. ياسر محجوب الحسين

البشير.. “براغماتية” لا ريب فيها


يصعب إصدار أحكام مطلقة أو حتى آراء نهائية في عوالم السياسة؛ والحال ينطبق على مآلات ونتائج زيارة الرئيس السوداني عمر البشير إلى الإمارات الأسبوع الماضي، بعد أن بلغت علاقة البلدين أسوأ درجاتها في العام 1992 عندما طلبت أبوظبي من السفير السوداني وستة دبلوماسيين آخرين مغادرة البلاد ولم يتم إعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية حتى العام 1999 لكنها مضت فاترة.. بيد أن قتامة التعقيد السياسي تكشف بعض الحقائق التي لا تخطئها عين متفحّصة.. هناك في الإمارات لم يكن ميزان المتغاضبين (الخرطوم وأبوظبي) قائما على معادلة: “موقفي صواب يحتمل الخطأ وموقف غيري خطأ يحتمل الصواب”. بل جاء البشير ممتطيا براغماتية لا ريب فيها ليؤكد أن مواقفه السابقة كانت خطأً لا تحتمل الصواب.. فالرجل انتقد بجرأة كبيرة التنظيم الدولي للإخوان واعتبره مهددا لأمن الخليج؛ بل أيد مواقف بعض دول الخليج بحماس ومنها الإمارات التي اعتبرت التنظيم جماعة إرهابية.. وقال البشير للصحافة الإماراتية: “لست إخوانيا وليس لدينا علاقة تنظيمية بهذه الجماعة”. ومعروف أن الإمارات صنفت في نوفمبر الماضي جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها تنظيما إرهابيا. وحاول البشير تمرير رسالة تؤكد أن نظامه يمكن أن يكون حليفاً قوياً للإمارات في الحرب ضد الجماعات الإسلامية. بل أظهر استعداده للدخول في شراكة معها لمواجهة خطر الجماعات خاصة في ليبيا، وكان ذلك موقفا جديدا ومفاجئاً لموقفه المعروف بشأن ما يجري في ليبيا. وذهب البشير بعيدا عندما قبل مقترحاً قيل قدمته الإمارات بتشكيل قوات مشتركة من السودان ومصر وليبيا بدعم إماراتي لمواجهة “داعش” في ليبيا. ويتم نشرها بطول الحدود المشتركة بين مصر والسودان وليبيا في منطقة العوينات لمنع تسلل عناصر التنظيم.

ولم ينس البشير التذكير بخطوته إغلاق المركز الثقافي الإيراني في الخرطوم وطرد موظفيه وكذلك فروعه في سائر ولايات السودان.. وليس خافيا أن ذلك كان “صفقة” غير منظورة مع دول الخليج تفضي إلى تحسين العلاقة معهما، مقابل تحجيم العلاقة مع طهران. وحينها بررت الخارجية السودانية القرار بأن المركز تجاوز التفويض الممنوح له وبات يشكل تهديدا للأمن الفكري والأمن الاجتماعي ويعمل لتحقيق مكاسب طائفية شيعية دخيلة على المجتمع السوداني.. صحيح أن هناك سبباً داخلياً متعلقا بضغط الجماعات السلفية والصوفية في البلاد لكن العامل الخارجي أقوى بكل تأكيد.. وبدأ الغزل السوداني للخليج في مايو الماضي حين أعلن وزير الخارجية السوداني رفض الخرطوم لعرض إيراني بإنشاء منصة دفاع جوي على ساحل البحر الأحمر للحد من عمليات القصف الإسرائيلي المتكررة للأراضي السودانية.
لكن حين تعاملت الإمارات بتحفظ – إن لم يكن ببرود – مع زيارة البشير؛ نجد أن الوفد المرافق للبشير كان ضخما ضم (11) مسؤولا هم وزراء الرئاسة والدفاع والخارجية والمالية والاستثمارات والكهرباء والمعادن والثروة الحيوانية، والعمل، فضلا عن رئيس جهاز الأمن والمخابرات والقائد العام للشرطة.. وتمثل موقف الإمارات المتحفظ في تعليق وكالة الأنباء الرسمية “وام” بقولها: “إن الرئيس السوداني حضر للإمارات للمشاركة في فعاليات معرض ومؤتمر الدفاع الدولي “آيدكس 2015” وللحديث حول العلاقات الثنائية بين البلدين ودور “آيدكس” في ترسيخ أسس السلام والأمن في المنطقة إضافة إلى تبادل الخبرات بين الخبراء العسكريين في السودان ودولة الإمارات”.
كما أن التحفظ ظهر في عقد عدد قليل من الاجتماعات رفيعة المستوى بين الوفد الزائر والمسؤولين الإماراتيين. والتقى البشير مع ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد آل نهيان ونائب رئيس الدولة محمد بن راشد آل مكتوم على هامش معرض (آيدكس). بيد أنه في ذات الوقت تقول “وام” إن المحادثات أزالت هواجس متبادلة أدت إلى فتور في علاقاتهما خلال المرحلة الماضية وصلت إلى حد وقف المعاملات المصرفية وأثرت على وضع العمالة السودانية.
إن أي تحسن في علاقات الخرطوم بالإمارات سيسمح لها بالاستفادة من الفوائض المالية الإماراتية، الأمر الذي قد يمكنها من الحصول على مساعدات وودائع في البنك المركزي لإنعاش الاقتصاد السوداني المتداعي من تأثير انفصال الجنوب والعقوبات الأمريكية.. وتقول الخرطوم إن حجم استثمارات دول مجلس التعاون الخليجي في السودان نحو (20) مليار دولار، نصيب الإمارات منها (6) مليارات دولار.
إن البشير جاء إلى الإمارات وعينه على المليارات الخليجية التي تدفقت إلى مصر عقب إقالة الرئيس المصري السابق محمد مرسي، فحاول تسويق مواقف جديدة يصعب هضمها بسهولة.. ويخطط البشير حسب وزير الاستثمار لزيارة عدد من الدول الخليجية بعد الإمارات، كل من السعودية، والبحرين، والكويت لتعزيز علاقات التعاون الاقتصادي والسياسي.
لتعلم الخرطوم أنها لن تستطيع إقامة علاقة إستراتيجية مع إيران والاحتفاظ في نفس بعلاقته المتميزة مع دول الخليج فهي معنية بدون شك بتحديد خياراتها على ضوء مصالحها الحقيقية لا أن تمارس هواية السير على الحبل المشدود.