رأي ومقالات

ياسر محجوب الحسين :تغييرات البشير شكلية أم جوهرية


[JUSTIFY]التغيير الكبير الذي أحدثه الرئيس السوداني عمر البشير في حكومته يبدو للوهلة الأولى تغييرا إيجابيا ومبشرا، بيد أن إشكاليات حقيقية تعتريه ليبدو في نظر الكثيرين شكليا وغير قادر البتة على مواجهة التحديات الكبيرة التي تواجه سفينة حكم البشير بعد مسيرة طويلة قاربت ربع قرن من الزمان.

الجانب الإيجابي في التغييرات ينحصر في تنحي رموز سياسية ومراكز قوى ظلت متنفذة ومستأثرة طوال هذه السنوات بالقرار السياسي دون أن تتيح الفرصة لغيرها للإسهام في العمل السياسي رغم انسداد أفقها السياسي ونضوب معين مبادراتها السياسية، حيث لم يعد هناك مجال أمامها لتقديم حلول ذكية تخرج البلاد من وهدتها.

والواقع أن هذا الجيل المخضرم لم يعد قادرا على إقناع أغلبية حزب المؤتمر الحاكم الصامتة والمعتزلة بالعودة للولاء والفاعلية التنظيمية، وبالتالي فقدان آليات حشدها وحثها على الالتفاف حول النظام في المرحلة القادمة.

وتتمثل إشكاليات هذه التغييرات في أنها أغفلت ثلاث قضايا وملفات مهمة، فهي لم تتضمن مبادرة لإشراك الأحزاب الأخرى في الحكومة من حيث إشراكها مشاركة فاعلة وحقيقة كما ونوعا، بدلا من مشاركتها الهامشية الحالية والتي توصف كثيرا بالمشاركة (الديكورية)، وظلت هذه الأحزاب تطالب الحزب الحاكم بنصيب مقدر من كعكة السلطة، ولكن دون جدوى.
كذلك هزمت التغييرات فكرة تقليص عدد الوزارات في ظل ضائقة اقتصادية تمسك بخناق الدولة عقب ذهاب أكثر من 70% من حجم الثروة النفطية بسبب انفصال جنوب البلاد في سبتمبر/أيلول 2011، بل زيدت وزارة مركزية جديدة، وبلغ عدد وزراء الحكومة الجديدة ستين وزيرا.

الإشكال الآخر هو تقوقع الرئيس البشير وعودته القهقرى لمؤسسته العسكرية (الجيش)، وفي هذه التغييرات استبدل نائبه الأول علي عثمان محمد طه، وهو رجل دولة مدني بالفريق أول بكري حسن صالح آخر أعضاء مجلس الانقلاب الذي قاده إلى السلطة في يونيو/حزيران 1989 الذين بقوا في السلطة بجانبه.

وبالتالي، فقد أصبح الطريق نحو مدنية الحكم في السودان طريقا غير معبد ليبقى الجيش لاعبا رئيسيا في الحياة السياسية السودانية.

لقد وقعت الحركة الإسلامية السودانية، وهي المرجعية الفكرية للنظام، في خطأ قاتل عندما أفسحت المجال أمام السياسيين والتنفيذيين البراغماتيين ليحتووا المجموعة العسكرية في المرحلة الأولى من حكم البشير، فضلا عن أنها لم تتعهد النخبة العسكرية الإسلامية بالبناء الفكري، وركزت فقط على البناء التربوي، فأصبح تدين تلك النخبة أقرب إلى التدين الصوفي التقليدي الشائع في السودان، والصوفية التقليدية تصطدم في الغالب مع الحداثة والاستنارة القائمة على التفكير العقلاني المنفتح.

ملامح توتر طبقي
لقد أظهرت الأحداث الأخيرة في الخرطوم وفي بعض الولايات في نهاية سبتمبر/أيلول الماضي أن مصيبة الحكومة السودانية أكبر من مجرد وضع اقتصادي ضاغط واحتجاجات شعبية على إجراءات اقتصادية أفضت إلى رفع الدعم عن أهم سلعة إستراتيجية، وهي الوقود بأشكاله كافة ليرتفع بنسبة 55%.

لم تشهد الخرطوم مظاهرات نمطية، مطلبية أو سياسية بالمعنى المعروف، لكنها كانت عبارة عن أعمال تخريبية تتخذ طابعا ممنهجا وليست موجهة ضد السلطات فحسب، ولكنها موجهة ضد المواطنين العاديين الذين هم في الوقت نفسه ضحايا تلك القرارات القاسية التي وصفتها الحكومة بالإجراءات الاقتصادية تخفيفا وتجميلا لها على ما يبدو، فهي زيادات كبيرة على وقود السيارات ومحطات الري وأسطوانات الغاز المنزلية، وهي زيادات تفضي بالضرورة إلى زيادات أخرى في سلع مرتبط إنتاجها أو توزيعها بزيادة الوقود بنسبة تصل إلى 100%.

وأشارت أعمال التخريب الواسعة إلى توترات اجتماعية أو طبقية تعتري المجتمع السوداني، ولم تكن قرارات رفع الدعم سببا لها بقدر ما كانت فرصة لها لتطفو على السطح.

لم يدلِ خبراء علم الاجتماع ولا السلطات الأمنية بتفسيرات لما حدث حتى الآن، لكن ما حدث ربما يشير إلى توتر اجتماعي استغلته حركات مسلحة متمردة على الحكومة، ويقوم خطابها السياسي على دعاوى التهميش على أساس جهوي وربما عنصري.

ولم يكن غريبا أن ما حدث يحمل ملامح ما عرف بأحداث الاثنين الأسود في الثاني من أغسطس/آب 2005 الذي تزامن مع مقتل زعيم الحركة الشعبية جون قرنق، حيث شهدت الخرطوم أعمال عنف غير مسبوقة تلفها مشاعر عنصرية مع اعتقاد البعض بتهميشه في ظل سيطرت القبائل العربية أو قبائل الوسط على مقاليد الأمور في السودان.

لكن بغض النظر عن التطورات التي انحرفت بالقضية الاقتصادية إلى قضية من نوع آخر، فإن قرارات الحكومة السودانية كانت موجعة ومجحفة بحق المواطن العادي الذي لم يكن البتة في وضع يمكنه من تحمل المزيد من الضغوط الاقتصادية بعد التدهور الكبير في سعر الجنيه السوداني مقابل الدولار الأميركي.

اقتصاديو الحكومة قالوا إن رفع الدعم كان جراحة لابد منها وإلا واجه الاقتصاد السوداني الانهيار الكامل في ظل تضاؤل الإنتاج مقابل ارتفاع مستمر لمصروفات الدولة والتي منها دعم سلعتي الوقود ودقيق القمح، ولكن اقتصاديين مستقلين يقولون إن الحكومة السودانية أخذت بأسهل الحلول ولم تكلف نفسها البحث في خيارات اصلاحية أخرى غير رفع الدعم، وإن الإصلاحات القائمة على رفع الدعم عبارة عن (روشتة) قديمة ظل البنك الدولي يدفع بها إلى الدول التي تعاني أوضاعا اقتصادية مماثلة.

والحال أن الحكومة السودانية ظلت مناهضة لوصفات البنك الدولي، فما الجديد الذي دعاها لاعتماد هذه الوصفة التي لم تراعِ حال السواد الأعظم من الشعب؟

ضد البروسترويكا
لقد فشل الحزب الحاكم الذي يرأسه البشير في الحوار الداخلي وقبول الرأي الآخر، واتخذ إجراءات الفصل ضد قيادات فيه قدمت مبادرة إصلاحية كانت في رأيها عملية (بروسترويكا) ضرورية لا غنى عنها، و(البروسترويكا) مصطلح روسي تحول إلى قيمة مفاهيمية تعني (إعادة البناء)، واليوم امتد مفهومه إلى إعادة البناء والإصلاح في الأطر والكيانات السياسية.
هذه (البروسترويكا) تقدم بها مجموعة الإصلاحيين داخل الحزب الحاكم بقيادة مستشار البشير غازي صلاح الدين العتباني، وهو كذلك رئيس الهيئة البرلمانية لنواب المؤتمر الوطني في البرلمان قبل عزله مؤخرا في سبتمبر/أيلول الماضي تزامنا مع تلك المظاهرات الرافضة للإجراءات الاقتصادية، بيد أن تلك المذكرة الإصلاحية ووجهت بغضب كبير وإجراءات قاسية ضد مقدميها.

موجة غضب الحزب ضد الإصلاحيين تجنبت الخوض في الأفكار التي حوتها المذكرة وركزت الهجوم على الجوانب الإجرائية التي صاحبت تقديم المذكرة، مثل توقيت المذكرة، والإشارة كذلك إلى أن الموقعين تجاوزوا “المؤسسية”، وقدموا مذكرة موجهة مباشرة إلى الرئيس البشير متعمدين تسريبها إلى الإعلام.

لقد دعت المذكرة إلى إجراء مراجعات داخلية في الحزب ونقد للذات، بما يقويه ويؤهله لقيادة البلاد، وإلى ما سمي بـ”مصالحة كبرى”، البلاد في حاجة ماسة لها.

وتضيف المذكرة أن البلاد في مفترق تاريخي، وأن المؤتمر الوطني هو الحزب صاحب المسؤولية الأكبر تجاه البلد والمواطنين، باعتباره الممسك بمقاليد السلطة، وأفعاله وقراراته تؤثر مباشرة في أحوال البلاد والعباد.

ويرد الإصلاحيون على الانتقاد الموجه لهم بشأن توقيت المذكرة واتهامهم بالانتهازية بقولهم “إن الأحداث التي جرت في البلاد أخيرا وتداعياتها داخل الحزب وخارجه قدمت سانحة نادرة للإصلاح، والمراجعات النقدية”.

وكان واضحا أن العتباني من مؤيدي تنحي الرئيس البشير، وسبق أن أشار في مقال له “أن البشير بخبرته قد أدرك استحالة أن يأتي زعيم -أي زعيم- بجديد في الحكم بعد أن قضى فيه خمسة وعشرين عاما”.

ويضيف أن “قوانين الطبيعة والفيزياء والكيمياء وحدها تمنع ذلك، ولعل الرئيس رأى أجيالا ناهضة تموج موج البحر تطلعا لحظها في القيادة وتجريب رؤاها المجددة”.

بل كان العتباني أكثر وضوحا في رؤيته عندما قال “وربما حدّق الرئيس في الأفق ونظر في أقاصيص الزمان أدرك أن التاريخ سيكون أرأف به في أحكامه لو أنه أحسن توقيت تنازله، وربما نظر الرئيس إلى أحكام التاريخ على حكام آخرين لم يعوا دروس الوقت فاستبرأ من أن يستنَّ بسنتهم”.

جرأة العتباني استندت إلى إعلان الرئيس البشير عدم رغبته في الترشح، إلا أن ما أعقب ذلك الإعلان من معطيات شككت في مدى صدقية هذه الرغبة أو أن قوى متنفذة في الدائرة المغلقة يهمها استمرار البشير في الرئاسة دون الأخذ في الاعتبار القراءة الموضوعية لمستقبل الخارطة السياسية في السودان، وكذلك مستقبل حزب المؤتمر الوطني في الحكم، فالنظام الأساسي للحزب الحاكم يمنع استمرار القيادات الحزبية في مواقعها لأكثر من دورتين بمن فيهم رئيس الحزب الذي أكمل دورتين.
الدائرة المغلقة توحي بأنه يمكن تعديل النظام الأساسي للحزب في المؤتمر العام القادم الذي تم تأجيله ربما لهذا السبب، ومعلوم أن رئيس الحزب سيكون مرشحه بانتخابات الرئاسة القادمة في 2015.

الخروج من عنق الزجاجة
مؤيدو بقاء الرئيس البشير في سدة الرئاسة يرون أنه ضروري لبقاء حزب المؤتمر الوطني حزبا حاكما، إذ إن البشير وهو القائد الأعلى للجيش لا يمكن تصور قبول الجيش برجل مدني يخلف البشير، فالبشير في رأيهم ضمانة قوية لولاء الجيش الذي ظل لاعبا أساسيا في السياسة السودانية منذ استقلال البلاد عام 1956.
وبالتالي، هناك ربط قوي وفقا لأولئك بين ضمان ولاء الجيش لحزب المؤتمر الوطني وبين استمرار البشير رئيسا للبلاد.

في المقابل، يرى البعض الآخر أن تلك حجة ظاهرها حق وباطنها باطل يريد بها أصحاب المصالح استمرار البشير في الحكم لارتباط مصالحهم ببقائه في الحكم، وبالتالي فهم لا يتورعون عن الزج بالبشير في أتون معركة قد تكون (خاسرة) حتى لو حصل على أغلبية الأصوات.

لكن رغم ارتفاع أصوات أصحاب المصالح المرتبطة ببقاء الرئيس البشير في السلطة إلا أن كثيرا من الدواعي والشواهد تصب في اتجاه التغيير، إذ إن المناخ الدولي والإقليمي وثورات الربيع العربي تحتم على راسمي الإستراتيجيات داخل الحزب طرح التغيير باعتباره محورا مهما في خطط مواجهة الأزمات التي تواجهها البلاد، وأن التغيير يمثل فرصة لالتقاط الأنفاس باعتبار أن ذلك التغيير يجعل الفرصة مواتية أمام صفحة علاقات جديدة مع الدول الغربية التي ظلت مناوئة للسودان.

الخرطوم مطالبة كثيرا بإظهار قدر من الاستقرار السياسي وترتيب البيت من الداخل وإدارة حوار سياسي مع كل أشكال الطيف السياسي السوداني، على أن يفضي هذا الحوار إلى الاتفاق على دستور دائم يضمن الحد الأدنى من الوفاق الوطني ويحول التنوع الثقافي والعرقي إلى معطى إيجابي.

مهما بذلت الخرطوم من جهود إعلامية وحملات علاقات عامة لجذب الاستثمارات وعكس صورة مشرقة للأوضاع في السودان، فإن ذلك لن يجدي نفعا طالما لم يصل السودانيون إلى استقرار سياسي ينهي حقب الاضطراب والاقتتال التي ظلت ملازمة للبلاد منذ الاستقلال عام 1956.

الجزيرة نت
[/JUSTIFY]


تعليق واحد

  1. [SIZE=4]الحق أم غيره ؟

    مازال الشعب السوداني طفلا يحبو في درب الديموقراطية الطويييييل .

    والدليل عبثية المعارضة التي اهترأت وشيوخها استنفدت صلاحيتهم
    وعنجهية النظام الذي اطمأن تماما لتصمغه في السلطة

    فلا بديل صالح للعسكرة الآن ، ولن يعود الجيش لثكناته إلا بعد وقت طويل جدا ….خمسة أجيال على الأقل[/SIZE] .