سمعت وشفت وجابوه لي

عافية تُغنِّي للترابي
أمِنَ التطورات الإيجابية في المُمارسة السِّياسيَّة بالسودان دُخول المعازف (غناء، أناشيد، مديح) أي كل الغناء ليس لأن طق السياسي الناشف أصبح طارداً، بل لأنّ ذلك يدل على أن الذائقة الغنائية قد تطوّرت وأصبحت لدينا قَابلية لسماع الغناء في أيِّ ظرفٍ من الظُروف، ونذكر هنا أنّ الفنان الراحل صديق الكحلاوي كان قد غَنّى (وداعاً روضتي الغنّاء.. وداعاً معبدي القُدسي) في المقابر وجثمان الكاشف عليه رحمة الله كان مسجياً في انتظار الدفن، وقال إن هذا وفاء لعهد بينه وبين الراحل، فالكاشف قبل أن يموت أوصى الكحلاوي أن يغني في تشييعه تلك الأغنية وعاهده على أن يفعل نفس الشئ إذا رحل الكحلاوي قبله.. الحزب الشيوعي السوداني كان أول من جعل الغناء فقرة في الليالي السياسية، فبعد انتفاضة أبريل 1985 وفي ليلة سياسية للحزب في الميدان الشرقي بجامعة الخرطوم تحدّث فيها الراحل محمد إبراهيم نقد بعد اختفاءٍ طويلٍ.. غنى في تللك الليلة الراحلان محمد وردي ومصطفى سيد أحمد ثُمّ أنشأ الحزب كورالاً ثابتاً.

الإنقاذ توسّعت في غناء الحماسة بإيقاع الدلوكة المُصاحب للاحتفالات السياسية.. أمّا آخر الداخلين في هذا المجال فهو حزب المؤتمر الشعبي، فقد جاء في الأخبار أنّ الحزب في نهاية مؤتمره الأخير الذي انعقد في الأسبوع الماضي والمُتزامن مع الذكرى السنوية الأولى لرحيل شيخ الترابي اختتم فعالياته بالفنانة عافية حسن، حيث أنشدت بأوركسترا كاملة أناشيد بعضها، قيل إنها مدحٌ في الترابي كتلك التي صَاغَها الراحل امام علي الشيخ (فتى خلقه مثل).. عافية حسن فنانة شابّة صاحبة صوت ملئ بالشجن كانت ظهرت في برنامج “نجوم الغد”، ثُمّ “أغاني وأغاني” وانطلقت بسُرعة الصاروخ لتفرد صوتها وجودة أدائها وأصبح لها غناءٌ خاصٌ وقاعدة مُعجبين، ولكنها اختفت فَجأةً وطال اختفاؤها ثُمّ ظهرت كمُنتمية لهذا الحزب.. عليه نلتمس من الإخوة في الشعبي أن يسمحوا لها بالعودة للغناء مع الاحتفاظ بعُضويتها وأناشيدها الجديدة تطبيقاً لمبدأ التراضي!

(2)
(الفوطة ذاتها إتكيّفت)
وأنا في انتظار الإشارة لكي تفتح، هجم الصبي بخرقة القماش المبلولة على زجاج السيارة الأمامي مسحاً دون حتى أن يلتفت إليّ، فضربت البوري كي أقول له مافي داعي فليس في جيبي عُملة من الفئات الصغيرة (فكّة) ولكنه لم يلتفت والحال هكذا، أنزلت زجاج باب السيارة الأيسر وصحت فيه يا ولدي ما عندي (فكّة) فَرَدّ عليّ وهو في حالة الانهماك ودون أن يلتفت: (يا عم في زول سألك من قروش هسي؟).. فسألته طيِّب شغّال لي شنو أنت؟ فرَدّ: (يا عمّك والله الفوطة ذاتها إتكيّفت) فصقعني ردّه ولباقته.. فبالفعل زجاج السيارة كان مُغبّراً غباراً كَثيفاً.. فعِوضاً عن أن يقول لي ذلك أو يقول الزجاج وسخان استعمل تلك اللغة المجازية غير العادية.. لما كانت الإشارة على وشك أن تفتح ناديته بإصرارٍ وقلت له تعال تعال اركب جنبي هنا، فاستجاب وفتح الباب الأيمن وجلس إلى جانبي، فقلت له أنا ما عندي معاك كلام كثير بس إن شاء الله تكون بتقرأ في المدرسة؟ فأجاب بالإيجاب قائلاً: امتحنت شهادة الأساس ومُتّجه على الثانوي إن شاء الله، فقلت له إن شاء الله ناوي تواصل القراية؟ فأجاب دا كلامك، والله إن شاء الله نقرأ لمن ربنا يغفر لينا، فقلت والله يا ولدي ريّحتني راحة شديدة، وإن شاء الله العربات البتسمح فيها دي باكر تركب أحسن منها فما في زول يقول ليك شغلتك دي كعبة فواصل فيها وبعد شوية شيل ليك جردل وغسِّل العربات وخليك صحراوي أي شَغلة دُغرية أصلك ما ترفع منها.. وما أن فرغت من كلامي حتى تجاوزنا الإشارة فجنّبت السّيّارة وأمرته بالنزول ليرجع لمُواصلة عمله فودّعني قائلاً: (شكراً يا عمك والله أحسن مشوار أقطعه في حياتي)، علماً بأنّ المُشوار المُشار إليه لا يتجاوز الخمسين متراً.

(3)
شلال غُنَا
في قائمة إذاعات “الأف أم” المُفضّلة لدى إذاعة المساء، فهي من الإذاعات التي تسامرني في مشواري اليومي من وإلى الجزيرة.. وبما أن خُروجي من العَاصمة في العصاري، فقد أصبح برنامج شلال غُنا الذي يقدِّمه الأستاذ الشاعر الرقيق مختار دفع الله صديقاً شبه يومي لي.. ففي هذا البرنامج يختار مختار دفع الله رمزاً غنائياً كبيراً ويُقدِّم بعض أغنياته وبين الأغنيات يتداعى مختار وبمعلومات غزيرة في الكلام عن الفنان أو الأغنية أو الشاعر، فالأستاذ مختار عبارة عن بنك معلومات عن سيسيولوجيا الأغنية السودانية وتاريخها كيف لا وهو ود أمدرمان منبع تلك الأغاني وهو جليس أهل الفن والمُطّلع على ما كُتب عن الغناء والمُساهم فيه بشعره، لذلك تجد إفاداته في غاية الأهمية وبأسلوبه الأخّاذ يشدك شداً نحو المذياع.. لحظت كثرة الإعادة لهذا البرنامج، فمثلاً لقد سمعت حلقة عبد العزيز المبارك وحلقة خليل إسماعيل وحلقة ابن البادية أكثر من ثلاث مرات رغم إني لم أمل تلك الحلقات لأنها غناء لا بل شلال غُنَا، إلا أنه في مقدور مختار أن يقدم حلقات جديدة لا سيما وأن رموز الفن الذين يحتاجون لتوثيق من فنانين وشُعراء ومُلحنين كُثرٌ.. في تقديري أن حلقة بادى محمد الطيب وهي آخر حلقة سمعتها من هذا البرنامج في مساء الاثنين وصباح الثلاثاء من الحلقات المُمتازة، فبالإضافة لأن بادى هو سلطان الطرب دُون مُنازع كما أطلق عليه صديقنا المُوثِّق والمُؤرِّخ للأغنية السودانية عوض بابكر، فمختار جمع معلومات كثيرة جداً عن بادى ومسيرة حياته من حلة عباس إلى جامعة الخرطوم إلى العباسية، ويبدو أن صديقنا حسب الرسول كمال الدين كان أحد مصادره.. ونحن في معرض الإشادة بمختار وبرنامجه الأنيق الظريف لابد من أن نذكر هنا صديقنا الأستاذ الكبير حسين خوجلي صاحب امتياز المساء ونسأله بالله يا حسين قدرت تعمل المكتبة الغنائية الضخمة دي كيف؟ تلك المكتبة التي جعلت صديقنا مختار يتنقّل كما الفراشة بين الأغاني؟ أخخخخ لو ألقى لَمّة في تلك المكتبة عشان أقرض على كيفي!

حاطب ليل – د. عبد اللطيف البوني
صحيفة السوداني

Exit mobile version