مصر..”الغُصَّةُ” مازالت في الحلق..
على الرغم من تقارب وجهات النظر نتيجة التوازن الاستراتيجي الذي تمتلكه اطراف الازمة بين “الخرطوم” و”القاهرة” ولكن “الغُصَّةُ” مازالت في الحلق من الافعال المصرية تجاه السودان ..
فقد استخدمت “الشقيقة مصر” كل امكانياتها و”مكرها” السياسي ضد السودان لتحقيق اطماعها الاستراتيجية في مياه النيل فظلت “مصر” منذ العام ١٩٢٩م على صلة وثيقة بملفات تحريض المجتمع الدولي والمنظمة الدولية واستعداء القوى الغربية على “السودان” من خلال نفوذها وامساكها بملف “التسهيلات الاستخبارية” لتمكين دولة العدو الاسرائيلي من تنفيذ اجندتها الاستيطانية بالشرق الاوسط .. وامعانها في سياسة “غض الطرف” بالمنطقة عن مخططات القوى الغربية وحليفتها الودود اسرائيل .. وبالمقابل وجدت “مصر” ضالتها الكبرى لاستعداء تلك القوى على السودان حتى تنفذ اطماعها المائية والضغط عليه لحمله على عدم الموافقة بقيام اي مشروعات مائية تمكن السودان من استخدام كامل حصته التي قررتها اتفاقية مياه النيل ..
? الحصار والطوق الذي فرضته “مصر” على “السودان” لكبحه من استخدام حصته المقررة في مياه النيل .. ناهيك عن زيادة حصته المائية عبر مشروعات لانشاء السدود داخل حدوده .. لكنها لم تتوقع ان تأتيها رياح المطالبة بحصة مياه النيل هذه المرة من “اثيوبيا” التي لا تملك عليها امراً ولا تربطها حدود تعكر بها صفو استقرارها الداخلي مثل السودان .. واثيوبيا هي المالك “المسجل” لاكبر رافد يغذي نهر النيل بكميات من المياه تعادل نسبة ٨٠% من ايراداته في فصل الخريف وهو رافد النيل الازرق او ال”ابباي” حسب ما يسمى بالامهرية ومن المفارقات ان طول “الابباي” ١٤٥٠ كيلومتراً ولكن تمر منه ٥٠ كيلو متراً فقط داخل حدود “اثيوبيا” دولة ال”منبع” ويمثل السودان دولة “تجميع” و”ممر” .. اما من ناحية اعالي النيل لم تكف مصر عن محاولاتها القديمة والمتجددة وأطماعها في حصة مياه اعالي النيل وهي تعيد اعمالها في انشاء قناة “جونقلي” بجنوب السودان بعد ان توقفت بسبب التمرد في الجنوب عندما كان اقليماً من اقاليم السودان وذلك لصالح تدفق مزيد من المياه الى ادنى النهر ..
? قمة الازمة ان “مصر” تعلم “السودان” سيستعيد حصته الكاملة من مياه النيل بفضل سد النهضة الذي بدأت اثيوبيا تشييده قبل اعوام وسط قلق من الخطوة .. فوجود سد النهضة سيمكن السودان من استخدام كامل حصته من مياه نهر النيل بعد ان كانت تمضي لمصر على سبيل “السلفية” بمقتضى اتفاقية ١٩٥٩م .. وتخوفات مصر بعد قيام السد من خسارتها نصيب السودان الذي كان يذهب إليها خارج ما تنص عليه الاتفاقية المبرمة بين الجانبين .. هذا هو المشهد التاريخي خلال المائة عام التي سلفت كان المؤثر الرئيس فيه اطماع مصر في مياه النيل ما جعل العلاقات السودانية المصرية علاقات يكسوها انعدام في الثقة بين الجانبين افرز عن توترات متكررة لن تعالج بالتهدئة وانما بحلحلة كافة القضايا ..
اعتقد ان هناك تفاهمات قبلية تمت اثناء لقاء “هيلي ماريام ديسالين” رئيس الوزراء الاثيوبي بالرئيس عبدالفتاح السيسي في زيارته للقاهرة مؤخراً وان السيسي قد فسر الامور في غير صالحه جراء مواجهته “الخرطوم” و”اديس ابابا” ازاء مواقفهما التنسيقية الصلبة تجاه مسألة سد النهضة وذلك من خلال جس نبض “ديسالين” عبر عدة عروض قدمت اليه لاستبعاد السودان خارج اطار الملف او ادخال طرف رابع كوسيط مثل صندوق النقد الدولي .. اضافة الى ان “السيسي” مرتبك في مواجهة معركة انتخابية مرفوضة لكثير من اقطاب المعارضة المصرية بالداخل والخارج وفي حال خلافه مع السودان سيتم توظيف هذا الملف بالضغط عليه .. اضافة الى سطوع نجم الخرطوم الاستخباري بكشف كثير من المخططات المصرية قبل حدوثها واجراء الخرطوم تحسبات وقائية اثبتت الثقل الكمي والنوعي في ميدان المواجهة القتالية ان حدثت بوادرها ..
كل المؤامرات المصرية على السودان تأتي في سياق الضغوط عليه لعدم استخدام حصته من مياه النيل كاملة .. ومصر تعلم ان ليس من شيء يعطل نهوض السودان غير السعي وراء تأجيج الصراعات فيه وتدويل قضاياه وما زاد عندها “الطين بلة” هو ان يناصر السودان جارته دولة اثيوبيا في تشييد سد النهضة الذي لم يؤثر على حصتها من مياه النيل ولكنه بالتأكيد سيمثل خصم حصة السودان المهدرة التي كانت تذهب اليها من استحقاق اثيوبيا والسودان في مياه النيل .. مصر استوعبت تماماً ان قيام سد النهضة اصبح واقعاً ماثلاً يجب تعاملها معه من خلال عودتها للتفاوض الثلاثي بعد محاولات مستميتة بدأت بمطالبتها وقف انشائه .. ثم التهديد والتصعيد الامني والعسكري بالمنطقة .. ثم استقطاب اطراف دولية للوقوف مع رفضها لانشاء السد .. ثم طرح موضوع ابعاد السودان عن المفاوضات ودخولها في تفاوض مباشر مع “اديس ابابا” .. ثم مطالبتها بدخول طرف رابع للتوفيق بين اطراف النزاع من بينها صندوق النقد الدولي .. ثم طرحت “مصر” موضوع ملء بحيرة السد بالمياه عن طريق التدرج الزمني خلال ١٠ سنوات تكون مصر قد اجرت احترازاتها لسد النقص من المياه الواردة اليها .. ثم تجاوزت ذلك الى انشاء صندوق مساهمة من الدول الثلاث لتعويض الاضرار الناتجة عن تشييد السد للدول الثلاث في حال حدوث اضرار .. خلاصة الامر ان مصر تجري عملية مناورات لكسب مزيد من الوقت وتحقيق نتائج لصالحها وغاية ما ترجوه هو موافقة “اثيوبيا” بتدرج تعبئة بحيرة السد من ثلاث سنوات الى عشر سنوات اضافة الى حصولها على حصة تعويضية من المياه خصماً على الحصة المهدرة من مياه النيل ..
من وجهة نظري يجب تعامل “الخرطوم” و”اديس ابابا” بحذر مع القاهرة اذ تعتبر كوابحها الحالية من المواجهة كوابح زمانية قد تنتهي عقب حدوث انتخابات مصرية هادئة لان ملف سد النهضة هاجس “امن قومي” يؤرق مضاجع المصريين كما ان للسودان استحقاقات حدودية مشروعة في مثلث “حلايب” .. وتدرك مصر ان “حلايب” سودانية وهذا ما اكدته الوثائق الدولية والحدودية .. وتجنب “مصر” للتحكيم الدولي يؤكد احقية السودان في المثلث ولكن تعتبر “مصر” مثلث “حلايب” ورقة ضغط مستمرة على السودان فالحكومة المصرية اجرت الكثير من الانتخابات في الجزء المحتل من حلايب كما اجرى السودان ايضاً انتخابات عديدة في الجزء الذي تتواجد فيه الحكومة السودانية، وحدوث انتخابات مصرية في المثلث لا يقلل من احقية السودان في مثلث “حلايب” فهي اجراءات ادارية لا تمثل اثباتاً قانونياً لاستحقاقات حدودية وحتى كل الخرط الدولية الصادرة في شأن الحدود بين “السودان ومصر ” تظهر علامات خطوط متقطعة في الخط الحدودي ما يشير الى نزاع حدودي حول المنطقة وان لم تجر فيها عمليات تسوية ستظل تمثل “القشة” التي ستقسم ظهر اي اتفاق بين البلدين .. بينما اهم عقبة تواجه الاتفاق هو انعدام الثقة بين اطراف النزاع “السودان واثيوبيا ” من جهة و”مصر” في الجهة الاخرى .. بجانب هواجس “مصر” من موضوع اعادة ترتيب اوضاع استراتيجية جديدة تسود ممر البحر الاحمر مثل الوجود “التركي” في “سواكن” والتنافس المصري مع السودان لكسب الجانب “الروسي” .. فاللقاء الثلاثي من وجهة نظري لا يعدو كون انه تهدئة مؤقتة لتحقيق مكاسب استراتيجية في فترة الهدوء ومن ثم اعادة الوضع الى المربع الاول .. بحكم ان المواجهة العسكرية بين الاطراف تكاد مستبعدة تماماً في الوقت الحالي ولكن يمكن الحل عبر التفاهمات السياسية والتسويات التفاوضية او عبر التحكيم الدولي ولكن ستظل حرب المخابرات مستعرة بين اطراف الازمة ..
بقلم:د. عصام بطران
الانتباهه.