رأي ومقالات

الإسلاميون ما بعد مليونية ٣٠ يونيو (بين التفاؤل والإحباط ودروس الماضي)


منذ ارهاصات مليونية ٣٠ يونيو الى نهايتها انقسم حال الاسلاميين بين متفائل أكثر من اللازم رافعا سقف الآمال والنتائج ، وما بين مستاء محبط من الإجراءات الأمنية والإعلامية التي اتخذت من قيادة المجلس السيادي بصفة خاصة تجاه المليونية وتجاه تحجيم دور الاسلاميين فيها ..
تواصل معي بعض الإخوة والأخوات معبرين عن كل هذه ( المشاعر ) ، وكان بعضهم مستاء من ردة فعل قيادتنا وكأنها تعاني ضعفا وغياب رؤية ..
رأيي الذي قلته لهم أنني متفائل جدا ( لكن بحذر ) وفقا للمعطيات المتوفرة ، حيث أن الاسلاميين اذا لم يمعنوا النظر في قراءة مجمل هذا المشهد ، والاستفادة من كافة مؤشراته للعمل بجدية وحكمة لامتلاك زمام المبادرة في المستقبل القريب فستضيع منهم الفرصة تماما ، والعكس هو الصحيح ؛ فالفرص أمامنا تعتبر اكبر مما لدى الآخرين ، فكل ما حصل في تقديري لخير كثير ، حتى يفوق كثير الإسلاميين من الغيبوبة التي يعشون فيها ، ويتخلوا عن تعويلهم على الجيش لإحداث تغيير في نظام الحكم وإبعاد الشيوعيين والعلمانيين من السلطة وإنقاذ البلد منه قبضتهم ..
قلت لهم من ناحيتي ربما لا أرى مشكلة في أن يتخذ الجيش مزيد من الإجراءات ( ضدنا ) – بالرغم من أننا الأقرب اليه وجدانا ومؤازرة ومشاركة – في السراء والضراء ، فهذه الإجراءات بمثابة ( التطعيم ) الذي نحتاجه في هذه المرحلة بشدة ؛ حتى نتعافى من بعض أمراض السلطة والمعارضة معا ، وحتى يفوق بعضنا من الذين ما زالوا يعيشون تحت تأثير الصدمة أو أؤلئك المستكينين للأمر الواقع وكان شيئاً لم يكن جراء هذا التغيير ، نعم نحتاج مزيد من العلاج بالصدمة حتى ندرك أن المعطيات قد تغيرت ، وأن المشهد الحالي والمستقبلي باتت تحكمه ظروف ومتغيرات مختلفة تماما ، ولذلك لا ينفع أن نظل في حالة انتظار لتتغير هذه المعطيات لوحدها دون أن نكون نحن أنفسنا لاعبين فاعلين في الساحة ؛ معتمدين من بعد الله على قدراتنا التنظيمية الذاتية ، وخبراتنا وعلاقاتنا السابقة والجديدة ، وإعادة البناء الداخلي ، والتخطيط الجيد للمستقبل ( الذي تمضي الأيام نحوه سريعا ، والأحداث تجري نحوه بشكل درامتيكي ) ، فبدلا من البكاء على اللبن المسكوب ، والعيش على الأمجاد السابقة ، والأمنيات التي لن تتحقق لوحدها ؛ يجب البحث عن الفرص الحقيقية ( وهي موجودة بكثرة ) ، ويجب النظر في صيغة وشكل التحالفات السياسية الممكنة ، وهي متاحة بالتأكيد ..
البعض مازال يرمي بأشواقه لتوحيد الاسلاميين الذين تفرقت بهم السبل إلى تنظيمات أخرى يصعب عمليا التئامها في وحدة عضوية اندماجية مرة أخرى ؛ فمازالت هناك الكثير من الجراحات والاختلافات والعوامل التي تحول دون تحقيق ذلك ، لكن يمكن أن تكون وحدة عبور في شكل تحالف أو منصة مشتركة الأهداف والغايات السياسية والايدلوجية ..
في تقديري يجب الانعتاق من حالة تضخيم الذات والاستعلاء التي جعلتنا في وقت سابق – وربما موجودة لدى البعض إلى الآن – جعلتنا نستصغر الخصوم ، ونستخف بالتهديدات المحيطة بنا ( فمعظم النار من مستصغر الشرر ) ، فإن الاستخفاف بالآخر خطر داهم ، والعكس صحيح اذا تم إعطائه حجم أكبر منه ، فكلها تقديرات خاطئة وخطيرة ..
إن بيئة العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي ؛ لم تعد هي تلكم البيئة التي كانت قبل ديسمبر ٢٠١٨ ، وأن العمل من منصة المعارضة يحتاج أدوات واستراتيجيات تختلف عن تلك التي استخدمناها إبان فترة الحكم ، ورغم أننا بعدنا عن منصة المعارضة لثلاثين عاما خلت ، الا أنه ليس من الصعب التربع على عرشها ؛ لأننا نعلم تماما أوزان وإمكانات خصومنا السياسيين ؛ فهم بمثابة مسرح مكشوف الى حد كبير بالنسبة لنا ، لكن ما لا نمتلك له مفاتيح حقيقية أو أدوات فعالة – بسبب اهمالنا المعيب – هو تلك ( القوى الشبابية الجديدة ) التي نشأت في عهدنا ، لكنها تربت على غير فلسفتنا وقيمنا ، فرطنا فيها وانشغلنا بتحديات إدارة الدولة عنها ؛ فسهل على الآخرين اختراقها والاشتغال فيها وتغذيتها بالغل والكراهية الممنهجة لاستخدامها ضدنا ، وغبنا نحن إلى حد بعيد عن التأثير فيها وتلبية تطلعاتها ، لكن مع كل ذلك ما تزال هذه القوى قابلة للعمل تجاهها اذا ما أحسنا استثمار الفرص المتاحة ، وتحسين صورتنا وصممنا الخطاب المناسب الذي يستجيب لتطلعاتها ..
ان نتائج مشهد المليونية ، أظهر أن هؤلاء الشباب مازال رغم محاولات استغلاله لاجندة قحت واحزابها خاصة اليسار ، لكنه اثبت أنه عصي على امتلاكه والسيطرة عليه بالكامل ، فهو قوة تحركها دوافع مختلفة معظمها بعيد عن السياسة بمعناها الحقيقي ، ولذلك ستظل هذه القوى الجديدة عنصرا محايدا في كيمياء السياسة السودانية في المرحلة المقبلة ، ولديهم قابلية أكثر لمساندة ( القائد الملهم ) و( المشروع الوطني ) الذي يحقق لها تطلعاته ، وهو الشيء المفقود الآن لدى كل القوى السياسية بلا استثناء ..
فمن يستطيع أن يصنع ذلك القائد الملهم وبرنامجه الجاذب والعملي ، ويقدم الروية التي تحمل اشواق هؤلاء الشباب ؛ هو من سيسيطر على المشهد القادم بلا منازع ، ونتمنى أن يكون ذلك لمصلحة الوطن أجمع أكثر من المصالح الحزبية الضيقة ..
ان امتحان السلطة مثلما أحدث فينا فتنا وسواءات ، وشغلنا عن بعض مسؤولياتنا تجاه هذه القوى الجديدة ، سيفعل ذات الشيء مع الحكام الجدد وبصورة أكبر مما أحدث فينا نحن ، وسرعان ما تنكشف الحقائق للرأي العام ، ويعرف الجميع أن سوءاتنا لم تكن بذلك السوء الذي تم تضخيمه وتصويره للرأي العام عبر عمل تراكمي منظم ، وأن الآخرين ليسوا بأفضل منا أخلاقا وقيما وكفاءة وقدرة على التضحية والعطاء .. ، سيعلم الجميع – بعد تجريب غيرنا – أننا كنا الأفضل طوال تاريخ السودان بلا منازع ، وأن ما قدمناه لهذا الوطن ولشعبه أكبر بكثير مما أخذناه لأنفسنا ، وأن أخطاءنا هي ( أخطاء البشر الطبيعية ) ، لكننا تجاهلناها ولم نعمل فيها المحاسبة والقانون بالقدر الذي يحد منها ويشفع لنا أمام الله وامام التاريخ ، لكن الفرصة ما تزال أمامنا واسعة للمراجعة والتصويب ، فهي ليست النهاية بالتأكيد ، لأن الدرس الذي تعلمناه من هذه التجربة سيكون رصيداً مهما نتعلم منه للنجاح وتقديم الأفضل في المستقبل عبر صندوق الانتخابات وعبر العمل المجتمعي الحقيقي والإنتاج الفكري المستجيب للواقع ..

*د. عبد المحمود النور محمود*


‫4 تعليقات

  1. إطمئن… الإسلاميون جذوتهم كانت ولازالت وستظل – بإذنه تعالى-متقدة بفضل من الله وجود منه…

  2. وشهد شاهد من أهلهم…… النهاية الفاتحة على أرواحكم يا الكيزان.