هل أمريكا دولة مؤسسات أم دولة إخراج مؤسسي؟!
الجواب عندي أنها لم تكن يوما ما دولة مؤسسات بل دولة رؤوس أموال جبارة وإخراج مؤسسي معقد ومحكم.
نعم صحيح في فترة من تاريخها من العهد الذهبي ومرورا بكل الحرب الباردة قبل أن تتفجر القضايا التي أدت لهذا الانقسام الحاد كانت الآراء بين الحزبين الكبار متقاربة (وان وجد تباعد فهو آراء يسارية شاطحة داخل الديموقراطيين وردود أفعال يمينية داخل الجمهوريين) ولذلك كان الإخراج المؤسسي متقن ومذهل، أيضا كانت المخابرات تحتكر التقدم التكنولوجي المعلوماتي وتتفوق فيه أمريكا على غيرها، ولذلك كانت هنالك ميزة داخلية وخارجية للمخابرات الأمريكية أهلها لتجعل بعض السياسيين دمي في يدها، لكن من يتحدثون الان عن سيطرة المخابرات على أمريكا يتحدثون “مخابرات هوفر” .. لقد صارت مجرد تاريخ وأفلام الثمانينات في هوليود.
من السهل جدا إيجاد شواهد عديد على انقلاب السياسة الأمريكية من رئيس إلى رئيس، عهد ترمب نفسه شهد الارتداد عن اتفاقية إيران وغيرها مما بشر به في الانتخابات كما حاول تبديل سياسة الاحتواء المزدوج ولم ينجح ولكنه توصل إلى نسخة جديدة سميتها من قبل “الابتزاز المزدوج والمتعدد”.
الأمر يحتاج لشرح ولكن بالنسبة لي المسارعة بالتطمين حول استمرار الإدارة الجديدة في ذات خطى السابقة بناء على أن أمريكا دولة مؤسسات خطأ، وفيه جرعة زائدة من الإعجاب بأمريكا.
تهيأت لي ظروف لجرد وتصنيف لأكثر من مئة وثلاثين مركز دراسات أمريكي معظمها في واشنطون وبعضها في نيويورك وبعد جهد جهيد كان هنالك ثلاثة وثلاثين مركزا تعتبر ناشطة ومتخصصة في “العلاقات الدولية” سواء في الجانب السياسي العام أو في جوانب أمنية دفاعية محددة أو اقتصادية أو تكنولوجية متخصصة.
الذي توصلت إليه أنه حتى في هذا المستوى المنتخب من المراكز و “محاضن الرأي” هنالك ثلاث أصناف من الفعاليات التي تعقد فيها؛ الأولي لتحديد وتشخيص المصلحة الأمريكية حقيقة وتمعنا، والثانية لإشهار موقف أمريكي تم تحديده وهنا تتم المفاضلة بين خيارات تخريج الموقف وربطه بالإستراتيجيات وليس خيارت تحديد الموقف لأنه محسوم، والثالثة هي فعاليات جمع معلومات وآراء أو التأكد منها أو توثيقها.
هنالك أنواع أخرى من الفعاليات الموسمية أو الشكلية مثل تدشين تقارير وغير ذلك مما يحلو للدبلوماسيين حضورها لأنها تكون هادئة و”بريستيتج” والمود فيها عالي.
لا عبرة اطلاقا بالفترة الزمنية التي قضاها بعضهم في هذه المراكز من زملاءها المسجلين إذ لا يحسن بعضهم إلا الحضور وشيء من العلاقات العامة مع الأشخاص، وهؤلاء اسميهم “سفرجية” لانهم يرتدون جيدا ويتقنون تقديم الطعام ورصه بعناية، لكنهم لا “يطبخون” ولو دخلوا وخرجوا من المطبخ مئات المرات في اليوم الواحد وفعلوا هذا طيلة عمرهم المهني.
كثيرا مع أجلس مع شخص لديه لقب ضخم وأخرج منه بسياحة عامة وسرد تاريخي .. لكن القدرات ضعيفة للغاية.
التمييز بين هذه الأنواع الثلاثة يكون بعدة وسائل .. بالأشخاص المتحدثين والمشاركين وطريقة طرح الموضوع وتوقيته وطريقة الإعلان عن الجلسة أو الندوة، إذ بعضها من الأساس تكون بالدعوة فقط by invite only.
ولدي قاعدة ذهبية، أنه إذا كان الموقف الأمريكي محدد ومحسوم، لا تحمل ورقة ولا قلم، اذهب و”تفرج” أما إذا كان الموقف مضطرب وضبابي فإنه من واحد إلى ثلاثة فقط من عشر فعاليات معلنة هي الأصلية والباقي “طق حنك” وسمسرة معلومات واراء.
خلاصات مراكز الدراسات ليست نهائية بل قد تكون تنافسية، وهنالك بعدها مرحلة تصفيات أخرى على أعتاب المؤسسة المعنية التشريعية أو التنفيذية، ولا بد أن تكون حزبية ثنائية في هذا المستوى.
لا زلت أذكر حلقة من ثلاثين شخصا فقط وتمت بدعوة محدودة عن الموقف الأمريكي من الانتخابات العراقية؛ هل الأفضل هو إعلان موقف أمريكي محسوم لصالح المرشح الأفضل لأمريكا ورمي الثقل معه (المقصود طبعا إعاقة الآخر) أم الأفضل ترك الإنتخابات تمضي وتحديد المصلحة مع كل مرشح وطبيعة الضغوط والحوافز في كل حالة.
لم يكن أحدا من الحضور متحدثا أساسيا كان هنالك ثلاثة مبتدري نقاش قالوا كلاما عاما حول المدى الزمني المطلوب لتشكيل الموقف وشرح للإنتخابات العراقية.
حضرت جلسة واحدة ولم أدع للثانية لأن الحضور الأساسي عشرين شخصا فقط، والبقية يتغيرون حسب الموضوع لأن المتخصصين قد يصيبهم داء الانغلاق في الموضوع ولا بد من عناصر خارجية متغيرة للترجيح.
المهم .. كان رأيي أن إعلان تأييد أمريكا لشخص يقلل من رصيده الوطني حتى ولو منحه قوة سياسية، خاصة في دولة شعبها غيور مثل العراق مهما تغير نظامه.
مراكز الدراسات تختلف عن ضوضاء السياسة الأمريكية أنها تحتاج إلى خامة عقلية معينة وفي العدم مستوى ثقافي ومعرفي مرتفع. ولكنها اشبه بغرفة مراقبة تساعدك في رؤية الكثير من التفاصيل.
بعد جهد إضافي من البحث والتقصي بات لي من المؤكد أن هنالك مؤسسات مستقرة في أمريكا ولكنها تكاثرت وتناسلت للحد الذي صار فيه الحديث مثلا عن “مجتمع استخباري” وليس وكالات استخبارية، لأنها وصلت الى أكثر من خمس عشرة وكالة ومؤسسة وقد كان جزءا من حملة ترمب أن هنالك قضية ما تجسست فيها المؤسسات ضد بعضها لتقاطع الاختصاصات بينها.
الهدف الأوضح لترمب كان هو تجفيف هذا المستنقع كما ردد كثيرا، وعبر مستشارة الأول ستيف بانون في “بدايات الدورة” عن المستنقع بالدولة الادارية، وغيره سماها الدولة العميقة لكن الاسم المعتمد لها هو “المؤسسة”.
أقول وبكل ثقة، وأنا شاهد على عهد الإنقسام، أمريكا لم تعد دولة مؤسسات بالمرة لكنها ما زالت دولة أخراج مؤسسي.
لو قربنا الفهم بمثال لزوجين في الحالة الأولى بدون زواج ولكن بعلاقة مستقرة وحقيقية واطفال، وهذا يحدث كثيرا في الدول الغربية، وتكون الاسرة سعيدة جدا لأنها رشيقة ومجردة من القيود القانونية.
تخيل زواج آخر رسمي فيه شروط وأحكام ويمكنك أن تجعله بين زوجين مهاجرين مسلمين في أمريكا لأنه بالإضافة للقيود الأمريكية هنالك الشريعة الإسلامية في الطلاق والعدة وهنالك دور تقليدي لتدخل الأهل من الطرفين وغير ذلك.
في كلا الحالتين خلاصة الأمر هو “تفاهم بين زوجين” بعيدا عن القانون والمؤسسية لكن في الحالة الأولى التفاهم حول مشكلة ما لا يحتاج لإخراج مؤسسي معقد لكن في الحالة الثانية لو حصل خلاف أو تضارب مصالح فان التفاهم بعدها ليس مجرد تبادل اعتذارات ودموع وقبلات هنالك إخراج قانوني ومؤسسي وروايات أخرى يتم تأليفها للأهل وذلك بإبراز جانب واخفاء آخر بل قد يكون هنالك احتياج لمفتي من خارج الحدود.
يبقى جوهر الموضوع في كلا الحالتين هو التفاهم وتوصل الطرفين للحل بمعزل عن القانون والمؤسسية.
في أمريكا تتم الأشياء خارج المؤسسات قطعا وتولد المصالح وتدور الصراعات خارجها، ولكن لا غنى عن الإخراج المؤسسي.
من الوارد تغيير الموقف الأمريكي في السياسة الخارجية بسبب تغير رئيس لكن في حقيقة الأمر السبب في تزايد قوة مجموعات مساندة للوضع الجديد وقدرتها على ربط التغيير بالمصلحة الأمريكية وقدرتها على تحديد مسار محكم للإخراج المؤسسي.
لكن الحديث أن الرئيس المنتخب يمضي بذات النهج للرئيس السابق لأن الأمر دخل في ذمة المؤسسات غير صحيح اطلاقا.
بقي أن أضيف أن الإخراج المؤسسي في حالة الإنقسام الأمريكي أكثر تعقيدا من جهة وأكثر سهولة من جهة أخرى.
وهذا أمر نسرده لاحقا في تشريح للإنقسام الأمريكي الرابع، لأن ما يحدث الآن حدث ثلاث مرات من قبل في التاريخ الأمريكي وبعضها بمستويات أسوأ بكثير.
بقلم مكي المغربي