د. محمد وقيع الله : احتيالات الدكتور عبد الوهاب الأفندي لعلمنة الإسلام

[JUSTIFY]لا يكاد المرء يفرغ من تتبع الحشد الحاشد، من المغالطات، التي انساق إليها الدكتور الأفندي وساقها في كتابه ذي العناوين المختلفة. وقد آثرنا أن نقدم نماذج منها، لا أن نذكرها ونفندها جميعا، مع أن ذلك ميسور لولا ما فيه من إملال للقراء. لقد ساق الأفندي مجموع مغالطاته، في سبيل تشويه مفهوم الدولة الإسلامية، حتى يصل إلى مبتغاه، الذي كوَّن من أجله فصول كتابه المشؤوم، وهو أنه ليس ثمة حاجة للمجتمعات الإسلامية المعاصرة إلى قيام دولة إسلامية تظلها وتحكمها. ولندع القراء ليمعنوا النظر، في هذا النمط من المغالطة، التي اجترحها الدكتور، حين وصف جميع المفكرين السياسيين الإسلاميين، بأنهم كانوا خياليين ومثاليين! قال الدكتور:» كان أول وأكبر أخطاء النظرية السياسية التقليدية، في الإسلام، إصرارها على تفسير نموذج الخلافة الراشدة، باعتباره الدليل على أن الحكام يجب أن يكونوا أشبه بالقديسين، وإن القوانين التي تحكم تصرفاتهم، يجب أن تصمم لتلائم هؤلاء الأولياء والقديسين«. والمعنى المراد الإيحاء به من هذا النص، هو أن المفكرين الإسلاميين، في مجموعهم، يكرسون دكتاتورية الدولة الإسلامية. ويمنحون حكامها سلطات مطلقة، ويقدسونهم، ويفترضون فيهم العصمة والبراءة من الأخطاء.

وفي الواقع إن هذا المفهوم لم يرد على متن النظرية السياسية الإسلامية السُّنية ولا على حواشيها.
وإنما هو مفهوم متأصل في الفكر الشيعي الذي يشايعه الأفندي.
وهو الفكر الذي أنشئت على أساسه (الثيوقراطية!) التي تحكم إيران الآن، وتمنح فقيهها الأعلى، ومرشد الثورة، ومجلس خبرائها المزعوم، سلطات تئد إرادة الشعب والبرلمان. أما في الفكر السياسي الإسلامي السني، فالمؤكد، والبدهي، هو أن الحاكم أجير لدى الشعب، وأنه في شخصه ليس خيرا من جملة أفراده، ولا عصمة له من أي نوع.
وقد أرسى هذا المبدأ سيدنا الصديق، رضي الله تعالى عنه، يوم قال: لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أخطأت فقوموني، وإن أصبت فأعينوني.
ومبدأ الشورى (الذي يفضل الأفندي عليه مبدأ الديمقراطية!) يؤكد فرضية الشورى، ووجوبها، وإلزاميتها، (لا إعلاميتها فقط!).
ويؤكد سيادة مبدأ الأغلبية، وذلك منذ قَبول الرسول الأعظم، صلى الله عليه وسلم، لرأي الأغلبية – رَغم إداركه لخطئه وسوء عاقبته – يوم الخروج إلى أحد.
وقد رتب الأفندي على مقدمته السفسطائية الفاسدة، عن مثالية فكرة الدولة الإسلامية وخياليتها، نتيجة أشد فسادا منها، مفادها أنه لا توجد قواعد حاكمة، تحدد سلوك الحكام في الدولة الإسلامية، وإنما ترك الأمر لهم ليتصرفوا كما يشاؤون. وقد تصادف – مجرد مصادفة حلوة فقط! – أن كان الحكام الأوائل صالحين وحكموا حكما راشدا.
ثم ما لبث أن حال الحال، وجاء غيرهم، فأفسدوا لما لم يجدوا في الدين ما ينهاهم عن الفساد.
بل وجدوا في بيئتهم:» القواعد والأعراف والضغوط التي كانت تشجع الفساد». كما قال الأفندي!
وخلاصة ما انتهى إليه الكاتب، من إيراد أمثال هذه المغالطات، التي لا تصمد للمواجهة المنطقية، هو أن النظرية السياسية الإسلامية التقليدية:» غير ذات نفع للمجتمعات التي يندر فيها القديسون، هذا فضلا عن أن القديسين كما أسلفنا يَهدون ولا يُهدون «.
ثم طاب له أن يتمادى في حشد مغالطاته الغثة، فزعم أن النظرية السياسية الإسلامية، التقليدية تتجاهل الواقع، وتحتكم إلى المثال وحده (والمثير أنه كان قد أنكر وجود هذا المثال المعياري، قبل هنيهة، ثم عاد وقرر وجوده، مدينا النظرية التقليدية بإهماله!)
وفي ثنايا هذه المغالطة الجديدة، أدرج الأفندي قوله إن:» الخلل البارز الثاني في النظرية التقليدية، أنها سعت لتفسير تصرفات وأعمال الخلفاء الراشدين في عزلة عن المحيط والظروف التي كانت قرارات هؤلاء الخلفاء تتخذ فيها. وهذا يفسر مثلا فشل هذه النظرية في تبرير الاختلاف بين الأوضاع المستقرة في خلافة عمر والاضطراب والشقاق الذي ميز خلافة كل من عثمان وعلي، مع أن كلا من هؤلاء الخلفاء الراشدين بحسب النظرية. ومرجع هذا هو عدم النظر جديا إلى الطريقة التي تصرفت بها الأمة ككل والظروف التي حكمت الأوضاع، وكون الأمة كلها كانت شريكا في القرار ولم تكن فقط جماعة من المتفرجين على أعمال خليفة فرد «.
ولا نريد أن نقف هنا لنرد على تناقضات الكاتب مع نفسه، حيث زعم سابقا أن الخلفاء كانوا شبه مقدسين بنظر الناس، وأن الأمة لا وجود لها. ثم عاد واعترف الآن بأن الأمة كانت لهم بالمرصاد!
لا نريد أن نقف عند ذلك، وإنما نريد أن نتصدى لدحض زعمه أن النظرية السياسية الإسلامية التقليدية (كما يسميها!) فشلت في تفسير تصرفات وأعمال الخلفاء الراشدين، رضي الله تعالى عنهم.
وفي هذا المعنى نملك حزمة تفسيرات (تقليدية!) قالت بها النظرية السياسية، الإسلامية السُّنية، في تفسير تصرفات وأعمال الخلفاء الراشدين. وهي التفسيرات التي تجرأ الأفندي ونفى وجودها!
أولى هذه التفسيرات ينتمي إلى عهد الخلفاء الراشدين، وتحديدا إلى عهد الخليفة الراشد، سيدنا علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، حين سأله سائل سؤالا إنكاريا، ابتغى به أن يضعف موقفه في السجال فقال: ما بال المسلمـون اختلفـوا عـليك، ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر؟!
فرد عليه الإمام، رضي الله تعالى عنه، ردا تحليليا، مقارنا، مفحما، فقال له: كان أبو بكر وعمر وَاليِيْن على مثلي، أما أنا فصرت واليا على أمثالك!
فأشار بهذا الجواب التحليلي المصيب، إلى ما نسميه اليوم بالعامل الاجتماعي المتغير.
وهو عامل كامن في هذه الحالة في الأوضاع الاجتماعية للرعية، أو ما جرى من تحولات وتخلخلات في الثقافة السياسية للشعب.
وينتمي ثاني هذه التفسيرات إلى عهد الإمام المفكر عبد الرحمن بن خلدون، الذي أكثر الأفندي من التجني عليه، وتقويله ما لم يقله، بغية أن يدينه ويسخف فكره ويسفهه.
وقد عزا ابن خلدون في مقدمته العظيمة في تحليل قضايا العمران، التغير الذي طرأ في أحوال الحكم، إلى النقص في وازع الدين في الرعية.
وهو تعليل صحيح، فالدين مكوِّن قوي في الثقافة السياسية للأمة المسلمة، بل هو أقوى مكوِّن فيها، ومتى ضعف أثره ضعفت الثقافة الذاتية للأمة قاطبة.
وينتمي النموذج التحليلي السياسي الثالث، إلى عصر سيدنا وشيخ طريقتنا، محمد جلال كشك، أغدق الله تعالى على ثراه مزن الرحمات، وذلك في كتابه العامر (حكايات عن عمر) الذي استعرض فيه طوائف مما نقله عنه المؤرخون القدامى. وقام بتحليل تلك الحكايات، تحليل علميا، منهجيا، انتهى منه إلى خلاصة عامة، مؤداها أن مصدر العظمة الحقيقي، في مجتمع عمر، انبعث من حقائق ثلاثة هي:
أولا: العقيدة: التي صاغت سلوك الأمة، وسلوك الحاكم، وحددت العلاقة بين الحاكم والأمة.
ثانيا: الأمـة: التي كوَّنها الإسلام، وتعلمت على يد الرسول، صلى الله عليه وسلم، وعرفت واجباتها وحقوقها، وما كانت لتقبل انحراف حاكم، أو تفرط في مثقال ذرة من حقوقها.
ثالثا: شخصية عمر: التي تشربت الإسلام، ووعت جوهره، فكان نموذجا إسلاميا كاملا، أتيحت له فرصة نادرة في عمر التاريخ. وهي تولي السلطة فترة كافية لامتحان أفضل فلسفة في التطبيق بين، وبجهود خير أمة أخرجت للناس.
فهذه نماذج تحليلية ثلاثة، لو أتيح لنا مجال جئنا بأكثر منها. ولكنها كافية في الدلالة على أن النظرية السياسية الإسلامية (التقليدية!) لم تفشل في تحليل أعمال الخلفاء الراشدين وتصرفاتهم، كما ادعى هذا الكاتب، الذي ما فتئ يدعي لنفسه أنه وحده الكاتب السياسي الإسلامي الوحيد المؤهل للتنظير في موضوع الدولة الإسلامية، التي لا يحتاج إليها المسلمون، كما أفاد بنظره المعتل المختل، الذي أراد به أن يجدد به ادعاءات شيخ العلمانيين المخذول علي عبد الرازق.

صحيفة الإنتباهة

[/JUSTIFY]
Exit mobile version