هل يواجه «مشار» و«باقان» مصير «هاشم العطا» و«بابكر النور» ..؟

[JUSTIFY]فتحت مدينة جوبا التي أضناها سهر ليلة (الأحد) أعينها على وقع انقلاب عسكري هو الأول منذ ميلاد استقلال آخر دولة تنضم لمنظومة الأمم المتحدة، وأغمضت جوبا عيونها الوجلة في السادسة من مساء أمس (الاثنين) على حظر التجوال وإغلاق الأسواق وإخراس أصوات الموسيقى المنبعثة من المقاهي والملاهي الليلية، ونشر آلاف الجنود في شوارع المدينة المرهقة بصراع قادتها وثوارها الذين انقلبوا على بعضهم، وبعد أن كان الشمال يوحدهم باتت حالتهم كالتي عبرت عنها بيانات الشجب لما حدث والسخط عن ما جرى وطفح، رفاق الأمس وزملاء الخندق والمعبر يحصدون أرواح بعضهم حتى سال الدم في أسواق (كنجي كنجي) و(كستم) وأمام القيادة العامة لقوات الجيش وفي المقرات الحكومية، حيث واجه الانقلاب مصير انقلابات عديدة فاشلة في الدول الأفريقية والأسيوية، في وقت تجاوز العالم ثقافة أن يمتطي جنرال السلطة على ظهر دبابة وعلى أشلاء الموت والجرحى.
وقائع ما حدث! بدأت الأحداث عاصفة منذ خطاب الرئيس “سلفاكير ميارديت” يوم (السبت) الماضي بتصويب انتقادات عنيفة للتيار “المناوئ” له ووصفهم بالخائنين لمبادئ الحركة الشعبية والمتآمرين على شعب الجنوب ومكاسبه التي تحققت بعرق جبينه وكفاحه ونضاله.. وهدد “سلفاكير” وتوعد بالحسم لكل من يتجاوز القانون والدستور، وأمر في الحال بطرد بعض القيادات التي اتهمت من قبل الرئيس وجماعته التي تمثل عصبة من قدامى العسكريين يتكئون على ظهر قبيلة الدينكا ذات النفوذ الكبير والعدد الطاغي في بحر الغزال وجونقلي.

ولم يهنأ “سلفاكير” كثيراً بهجومه على كل من د.”رياك مشار” النائب الأول السابق، و”باقان أموم” الأمين العام للحركة الشعبية طويلاً، إذ سرعان ما قال “رياك مشار” لوكالة (رويتر) للأنباء أن الرئيس “سلفاكير” تقمصته روح الشر، وامتطى حصان الجيش للانقلاب على الشرعية التي جاءت بإرادة الحركة الشعبية.. وقال “رياك مشار” إن الرئيس “سلفاكير” يؤسس الآن لحقبة من الدكتاتورية التي لا تبصر إلا تحت أقدام جنرال فقد أسباب بقائه في رئاسة دولة تتطلع للديمقراطية والحرية والعزة.. ودعا النائب الأول للرئيس “جيمس واني أبقا” لضرب الخائنين بأيدٍ باطشة، وسرعان ما التأم شمل اجتماع ضم الرئيس “سلفاكير ميارديت” والفريق “جيمس هوت” و”كوال ميانق” و”جيمس واني أبقا” ورئيس المجلس التشريعي ومدير المخابرات في منزل الرئيس “سلفاكير” الذي ترك المجتمعين في صالونه الرئاسي برهة من الوقت، وبينما ظن الجميع أن “سلفاكير” غاب ليتخلص من بدلته السوداء ورباط العنق والقبعة الزرقاء.. ويرتدي ملابس مدنية حيث درج “سلفاكير” على ارتداء الجلابية الأفريقية ذات (العنق الضيق) والأكمام الواسعة والطاقية المزركشة.. إلا أن “سلفاكير” عاد مرتدياً بزة عسكرية (مموه) وعلى كتفيه علامات الفريق أول على خلفية حمراء وكاب بدون علامات دليلاً على إقدامه على خوض معركة تتطلب العودة للجيش.. وبعد ثلاث ساعات كانت مدينة جوبا غارقة في احتساء (الفودكا) و(الجن) والجعة البلدية (المريسة) في الأحياء الفقيرة حيث (السبت) و(الأحد) عطلة رسمية في الجنوب وحظر “سلفاكير” بقرار سلطاني على موظفي الدولة وقادة الحكومة المدنية والعسكرية احتساء المشروبات الروحية أثناء ساعات العمل، ومن يفعل ذلك يتم فصله من الخدمة.. وذلك لمحاربة العادات الضارة كما يقول “أليو قرنق” أحد المقربين من الرئيس.

في الاجتماع حدد الرئيس “سلفاكير” مهام بعينها لقادة الجيش واستدعى مدير جهاز الأمن والمخابرات لاجتماع لوحدهما.. والمدهش أن “سلفاكير” حينما حضر إليه مدير جهاز الأمن والمخابرات مرتدياً بدلة سوداء وقميص أبيض وحذاء يثير صوتاً على السراميك البيضاء.. أمره بالعودة لمقر جهاز الأمن والعودة برداء عسكري.. وهي إشارة ذكية من الرئيس لمدير جهاز أمنه بأن الأوضاع في البلاد تتجه لحافة المواجهة مع بعض المنشقين.. وفي هذا الأثناء طلب السفير الأمريكي من وزير الخارجية “برنايا بنيامين” لقاء بالرئيس، إلا أن الوزير اعتذر.

وكانت قوة من الجيش الشعبي يقودها الضابط “جيمس وول” قد وصلت إلى جوبا قادمة من أعالي النيل، وتم احتجاز القوة خارج المدينة بعد أن أعلن رئيس أركان الجيش حالة الاستعداد بنسبة (50 %) وذلك تكتيك عسكري يتم اتخاذه في حالات الانقلابات المحتملة لأن إعلان الاستعداد بنسبة (100 %) ربما ساعد الانقلابيين لتوجيه ضربتهم.. وتحركت قوة من منطقة ملوال شات جنوب شرق مدينة بور نحو مدينة جوبا، إلا أن القوة تم اعتراضها في منطقة سودان سفاري، ولم تصل إلى جوبا.. وأصابت الأعطاب سيارات قوة تحركت من واط، وأخرى من أيود باتجاه جوبا.. وأحاط رجال المخابرات الرئيس “سلفاكير” بتفاصيل حركة القوات نحو جوبا قبل وصولها، وتلك من الأسباب التي أدت لفشل المحاولة الانقلابية كما يقول المراقبون، واختار الانقلابيون ساعة صفر تمام السـ6ـاعة صباح أمس (الاثنين) إلا أن رجال الرئيس “سلفاكير” بدأوا التحرك ليلة (الأحد) حيث تم إلقاء القبض على عشرة ضباط في (ميس) القيادة العامة.. ونشطت قوات الأمن في تفتيش بعض المنازل واقتادت أربعة من أعضاء المجلس التشريعي من منازلهم دون حتى إبراز أمر رفع الحصانات عنهم لتبدأ المواجهة في حوالي الساعة السابعة صباح أمس حيث أطلق الرصاص بكثافة وقتل حتى لحظة إعداد هذا التقرير نحو مائة من الطرفين ولم ترد تفاصيل عن عدد الضحايا من المدينتين، إلا أن السلطات لم تجد رهقاً في نقل “باقان أموم” من موقعه حيث وضع في الإقامة الجبرية منذ شهور إلى السجن، ولحق به “رياك مشار” و”جون مالونق” و”تعبان أتيم” و”لورنس مشار” وبدأت مداهمات لمقرات بعض السياسيين من التيار الذي كان يشجع “مشار” على خوض معركة فاصلة مع الرئيس “سلفاكير” والذي نجح أمس في كتابة السطر الأخير في دفتر العلاقة المتوترة وزج بقادة الحركة الشعبية في غياهب السجون.. فيما ينتظر تقديمهم للمحاكمة في الأيام القادمة.. فهل يستحضر الجنوب المشاهد الدموية لصراع السلطة في السودان القديم، حيث كان مصير الانقلابيين الإعدامات الفورية مثل انقلابيي يوليو 1971 وانقلابيي 28 رمضان في عهد الإنقاذ، وقد تعافى الشمال جزئياً عن مرض الانقلابات، ولكن الجنوب ابتدأ صفحة ولا يعرف إلى أين تنتهي!!

بداية أم نهاية!! أعلن “سلفاكير ميارديت” رئيس جمهورية جنوب السودان أمس في خطاب مقتضب عن إحباط المحاولة الانقلابية التي قادها نائبه السابق د.”رياك مشار” وبعض المساندين له وتزيت جوبا ومدن الجنوب الأخرى بلون الكاكي وسط أنباء عن مشاركة بعض منسوبي الجيش الشعبي من جبال النوبة وقطاع الشمال في المحاولة الانقلابية ومعلومات غير مؤكدة عن اعتقال “دينق ألور” و”إدوارد لينو” من “أبيي”.. إلا أن المحاولة الانقلابية التي شهدتها جوبا لا تخلو من ظلال إثنية وعرقية حيث أخذ النوير على عاتقهم معارضة الرئيس “سلفاكير” بدعاوى التهميش المقصود وإقصاء أكثر القيادات في الساحة الجنوبية بروزاً وسط النوير “مشار” و”تعبان دينق” ولا يتعدى نصيب النوير في الدولة المجلس التشريعي الذي أسند لمناسا ماقوك وهو من جنوبي الداخل كان من القيادات البارزة في المؤتمر الوطني، ولكنه انضم للحركة الشعبية وبات قريباً من الرئيس “سلفاكير” وخصماً لدوداً للدكتور “مشار” الذي يسند ظهره على أهله في مناطق أيود وكنقر وواط، وخاض من قبل عام 1992 حرباً ضد الراحل د.”جون قرنق” وهزمه حتى دخلت قوات يقودها “وليم نون” مدينة بور مسقط رأس د.”جون قرنق” الشيء الذي اعتبره الدينكا بمثابة (استفزاز) لكرامتهم وتم اتهام “سلفاكير” حينذاك بارتكاب جرائم حرب وتطهير عرقي في المنطقة التي تعرف بمثلث الموت.. وبين الدينكا والنوير تنافس تاريخي أجهض من قبل اتفاقية السلام 1972 حينما استأثر الدينكا بالمواقع والوظائف في المجلس التنفيذي العالي ودفعوا النوير لحمل السلاح من خلال جماعة “غردون كونق” و”محمد شول الأحمر” و”صموئيل قاي توت”.. ويعتبر النوير مقاتلين أشداء في ميدان المعركة وساسة أذكياء، إلا أن الدينكا هم سلاطين الجنوب ويفوق عددهم جميع القبائل النيلية والاستوائية ولا يتوقع أن يتجه “سلفاكير” لتصفية خصومه الذين تم إلقاء القبض عليهم خوفاً من تبعات ردة الفعل وحمل السلاح في وجهه ودولته مرهقة اقتصادياً ولا تملك القدرة على خوض حرب جديد. وكانت وساطات قد نشطت حتى يوم (الخميس) الماضي للمصالحة بين “سلفاكير” و”رياك مشار” ونشط في المصالحة كل من “أبيل الير” و”جوزيف لاقو” ود.”فراينس دينق” الذين يعتبرون بمثابة حكماء الدولة الجنوب ولن ينسى “سلفاكير” للرئيس “عمر البشير” مهاتفة له أمس قبل أن تحكم قواته السيطرة على الأوضاع والاطمئنان على جزء عزيز من السودان ذهب كدولة لحالها، ولا تزال الروابط والوشائج قوية وحاضرة في ساعات المحن، وقد كان “سلفاكير” أول من أبرق “البشير” معزياً في ضحايا السيول والفيضانات في أغسطس العام الجاري.. فهل دحر الانقلابيين وإنهاء حالة اللاحرب ولا سلم بين “سلفا” و”مشار” ستكتب أول سطر في عهد جديد للدولة الوليدة؟؟ أم أن أبواب جهنم قد فتحت على جوبا، ولن يكون الشمال بمنأى عن أي آثار سالبة للصراع الجنوبي الجنوبي على السلطة؟

صحيفة المجهر السياسي
ت.إ[/JUSTIFY]

Exit mobile version