دولار عبد الوهاب ودولار بدرالدين «1»

في حفل التأبين الذي أقيم بقاعة الصداقة للدكتور المرحوم عبدالوهاب عثمان وزير المالية الأسبق – رحمه الله وأنزله مع الصديقين والشهداء – تحدث السيد وزير المالية بدرالدين محمود وذكر انه كان لصيقاً بالدكتور عبدالوهاب وتتلمذ عليه وهو يحذو حذوه في رسم سياساته المالية والاقتصادية.
عندما عدت من الاغتراب في نهاية عام 1998 عملت مديراً عاماً لمجمع ساريا الصناعي وكان يضم داخل حوشه الكبير 7 مصانع . لم أمكث في تلك الوظيفة أكثر من سبعة أشهر فقدمت استقالتي لأسباب عديدة ولكن أهمها انني فشلت في إدارته وقبلت الاستقالة وانتقلت لموقع آخر.
غير أنه كانت هناك نقطة هامة ظلت مصدر تأمل لي الى الآن. فقد أخبرتني السكرتيرة انني مطلوب في مكتب السيد وزير المالية. وكنت أتساءل ما الذي يريده مني السيد وزير المالية وأنا لم يمض على تعييني إلا بضعة أسابيع. وراودتني بعض الأفكار المخادعة التي لا ينجو منها أحد في مثل هذه الظروف وهي انه لا بد أن يكون السيد وزير المالية قد سمع بتقلدي لتلك الوظيفة ويريد أن يتعرف على هذه الشخصية العبقرية التي ستساهم في دفع عجلة الإنتاج وبالتالي في تحسين وضع ميزان الإيرادات بما أضخه من أموال في نهر الاقتصاد السوداني.
السيد وزير المالية كان هو الدكتور عبدالوهاب عثمان. وعندما وصلت مكتبه قدمت نفسي لمدير المكتب الذي أجلسني بحفاوة ريثما يدخل ليخبر السيد وزير المالية بمقدمي الميمون. في هذا الأثناء جربت عدداً من الابتسامات فاخترت ابتسامة تدل على الثقة بالنفس وتناسب نوع ربطة العنق التي تفننت في ضبطها.
وسمعت السيد وزير المالية يقول لمدير المكتب:
– أيوا… مدير ساريا خليهو يدخل.
وما أن تخطيت عتبة الباب وقبل أن ألقي التحية على السيد وزير المالية فاجأني قائلاً:
– تعال هنا.. انت عايز تحطم الاقتصاد السوداني؟
وارتبكت ولم أعرف بماذا أجيب غير أن أقول:
– أنا ؟
– أيوا أنت ..
– كيف يا سعادتك أكون عايز أحطم الاقتصاد السوداني؟
أجاب: انت مش مدير ساريا ؟
– أيوا.
– قال بحدة : يا أخي نحنا تعبانين نثبت في سعر صرف الدولار تجي انت تقوم تلخبط سياستنا دي؟
قلت ولم يظهر عليّ أي نوع من الفهم : بس أنا ما فاهم كيف أنا لخبطت سياستكم؟
قال:
– انت مش اشتريت من السوق السودا 100 ألف دولار؟
– مية ألف دولار أنا أجيب سعرها من وين ؟ وأعمل بيها شنو؟
أجاب مؤكداً:
– انت مش مدير ساريا؟
– نعم .
– طيب أنا جاني تقرير انك اشتريت من السوق السودا 100 ألف دولار.
– ما حصل..
– وطيب دا شنو؟ وأشار لتقرير على ورقة كان يمسك بها ..
وهنا دخل أحد معاونيه .. وقال:
– سعادتك مش المدير دا… في شركة تانية اسمها سارية والجماعة غلطوا ورفعوا ليك تقرير غلط. المدير دا ما هو اللي اشترى الدولارات .. داك مدير تاني.. معليش يا دكتور نحنا غلطانين..
وهدأت ثورة السيد الوزير واعتذر لي وقال لي مداعباً:
– خلاص طلعت براءة.
فطلب مني الجلوس وقال:
– يا أخي نحنا تعبانين عشان نثبت سعر الدولار… وأي زول عايز دولارات يجينا بنديهو لكن بعض الناس مصرين انهم ينشطوا السوق السودا مع انو أحسن ليهم ياخدوا من البنوك وبالسعر الرسمي.. ودا في صالحهم وصالح البلد.
خرجت من مكتب السيد الوزير تتنازعني أفكار وخواطر عديدة. وظلت تلك الخواطر تنتابني كلما أرهق ميزانيتنا الدولار بصعوده الصاروخي منذ أن فارق الدكتور عبدالوهاب عثمان وزارة المالية. فهذا رجل نذر نفسه لكتم أنفاس الدولار حتى لا يصاب بالانفلات العام. وكان يسمع دبيب الدولار داخل خزائن ومخالي وتحت عناقريب رجال الأعمال ويؤرقه أن يسري الدولار ويسرح ويمرح ويخرج من شرايين اقتصادنا دون رقيب أو حسيب. ولذلك ظل الدولار في مواعينه لا يتطاول علينا بفضل سياسة القبضة الحديدية التي ابتدعها الدكتور عبدالوهاب عثمان حتى جاء اليوم الذي ارتخت فيه تلك القبضة الحديدية فخرج الدولار من قمقم عبدالوهاب ليثير الرعب في الجميع والكل يقول لك:
– نعمل شنو.. مع الدولار؟
– وصاحب الطماطم اليوم يتحدث عن الدولار
– وصاحب العناقريب يتحدث عن الدولار
– وصاحب العربات يتحدث عن الدولار
– والبنت الواقفة في الصيدلية تتحدث عن الدولار بينما تقلب في يديها شريط البنادول.
«نواصل»

د.محمد عبدالله الريح
صحيفة الصحافة

Exit mobile version