علم آخر الزمان

علم آخر الزمان
يسير التطور العلمي حثيثاً، وبشكل لا يتعذّر معه إدراكه فحسب وإنّما تصعب حتى متابعته لإزالة الدهشة. ويعدّ العالم الأول هو الفاعل لهذه الكشوفات والأبحاث العلمية حتى أصبح كل يوم جديد بمثابة اكتشاف جديد، يضيف إلى البشرية في صحتها ورفعتها وسلامتها وفي أحايين أخرى دمارها. وإذا كان العالم الثاني يتوافق مع هذه الكشوفات والأبحاث العلمية ويستقبلها ويتأقلم معها، فإنّ العالم الثالث ما زال يقبع في طور الاندهاش مما يجري حوله.
فنزويلا مثلاً بالرغم من عدم مقاربتها لتطور العالم الأول إلّا أنّها شرعت مؤخراً في تطبيق نظام يفرض على المتسوقين تسجيل بصماتهم في محال بيع المواد الغذائية، منعاً لتهريبها عبر الحدود أو بيعها في السوق السوداء. تمّ ذلك في مبادرة أثارت الكثير من الجدل منذ طرحها، ولعلّ الحاجة المتمثلة في عجز الاقتصاد الفنزويلي من استيراد المواد والسلع الأساسية بالرغم من امتلاكه واحدا من أكبر احتياطيات النفط في العالم، هي التي أجبرت السلطات هناك على هذه التجربة. ويكمن السبب في اللجوء إلى ذلك بالمعاناة الحقيقية مع الفساد المرتفع حسب المعايير والمؤشرات العالمية ومشاكل تهريب البضائع عبر الحدود إلى كولومبيا.
أما عالمنا الثالث فإنّه ومع إيقاع العصر السريع الذي جعل كل تفاصيل الحياة تتغير وبسرعة كبيرة، وحده من يقف ويراقب ما آلت إليه كثير من الأشياء حتى أصبحت من المسلّمات التي لا يملك نحوها جدلاً. كما أنّه وحده من يشهد انقلاب المفاهيم والنظريات التي تُثبت في يوم وتُنفى في الآخر.
وفي تقنية قريبة من ذلك توصلت أبحاث جديدة إلى التعرف على ما تناوله الفرد من طعام أو شراب من خلال تعريض بصمة الإصبع للماسح الضوئي. وتستخدم بشكل خاص في فكّ ألغاز الجرائم بمعرفة ما تناوله الجاني أثناء ارتكابه الجريمة، وكذلك تحديد الجنس والهوية خاصة في الجرائم ذات الصلة بتناول والاتجار بالمخدرات.
ووصل العالم إلى دور التقنية الحيوية في البصمة الغذائية لمعرفة الاحتياجات المثلى للإنسان وأهمية فهم الهرم الغذائي لتقليل الهدر في الطعام سواء برميه أو استهلاكه دون حاجة، وهو ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمعدلات السمنة في المجتمعات.
وبعد أن وصل العالم كله بعد عناء ومشقة إلى أنّ الجسد النحيل أجمل وأرق وأصحّ، بقيت بعض الشعوب العالمثالثية عند موقفها. فموريتانيا مثلاً تقف بقوة مؤيدة للنساء المكتنزات ذوات الأجساد الممتلئة بل ومشجعة على ذلك بسياسة التسمين القسري بالطرق التقليدية والعقاقير الطبية، وكل ذلك لأنّ المجتمع الموريتاني يرى في المرأة الممتلئة مثالاً للكمال الذاتي. ويسود اعتقاد مجمع عليه في الأوساط الموريتانية مفاده أنّ الرجال هناك ينشدون المرأة البضة السمينة فتسعى الأسر لتسمين بناتها خوفاً عليهن من العنوسة. وبتبني موريتانيا لهذا المفهوم الخاطئ تكون قد أعادت الزمن إلى الوقت الذي رسم فيه الأعشى الصورة للمرأة النموذج في معلقته الشهيرة:
ودّعْ هريرة َ إنْ الركبَ مرتحلُ
وهلْ تطيقُ وداعاً أيها الرّجلُ؟
غَرّاءُ فَرْعَاءُ مَصْقُولٌ عَوَارِضُها
تَمشِي الهُوَينا كما يَمشِي الوَجي الوَحِلُ
والوجي هو البعير الذي يمشي بهدوء في الأرض الموحلة، هذا التصوير والتشبيه ساهم في أن تصبح صورة المرأة بهذا الشكل ولزمن طويل رمزاً للترف ومصدراً من مصادر الجمال التي لا غنى عنها واعتبرت كذلك المرجع الأساسي في تشكيل جسد المرأة، قبل أن تكثر نصائح الأطباء وتظهر ضرورات العصر الحديث التي جعلت المرأة مساهماً أساسياً في عملية التنمية وهي بذلك تحتاج إلى حيويتها ونشاطها وطاقتها.
ذهب العالم بعيداً في علمه واختراعاته التي تبدأ من الإبرة إلى الصاروخ، ومن تقنية الجزيئيات الدقيقة التي يتم استخدامها لأغراض دراسة التعبير الجيني، أو تأثير دواء أو طعام ما على المرضى إلى قوام الجسد. وإذا كان العالم قد وصل إلى علم آخر الزمان هذا فإنّنا بلا شك ما زلنا مع الأعشى في أوله.

الكاتبة : منى عبد الفتاح

Exit mobile version